Aller au contenu principal

"الإعلام العربي والمسألة الثقافية"

news-details

ثمة بين الإعلام والثقافة (داخل الوطن العربي كما خارجه) علاقات قرب وتعايش (لدرجة الاندغام) وثمة بينهما ولربما في الآن ذاته علاقات تضاد وتنافر قد تشارف على الممانعة.

أما علاقة القرب والتعايش فبالإمكان ملامستها وفق ثلاثة مستويات رئيسية... ثلاثة عناوين كبرى يقول البعض:

+ العنوان الأول ويتأتى من الوظيفة التثقيفية الملازمة لطبيعة الممارسة الإعلامية والتي تدخل بحق في صميم الوظائف التقليدية للإعلام على الأقل منذ بدأ الحديث والبحث في علم الإعلام والاتصال سيما مع هارولد لاسويل الذي جعل (منذ خمسينات القرن الماضي) من مسألة نقل التراث الاجتماعي من جيل إلى آخر إحدى الوظائف المركزية ضمن وظائف الإعلام الأخرى المتمثلة في الإخبار وفي الترفيه.

الثقافة لازمت إذن الإعلام وواكبت تحولاته وسايرته بالمنعطفات الكبرى التي عرفها سيما مع ثورة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال وتسارع وتيرتها منذ ثمانينات القرن الماضي.

+ أما العنوان الثاني فيكمن في الخاصية الأدواتية التي مكنها الإعلام للمسألة الثقافية فاسحا لها في المجال والآفاق بعدما كانت ولعهود طويلة مقتصرة على النخب أو محصورة بين المهتمين أو المشتغلين بالحقل الثقافي أو المتابعين لتموجاته.

لم يقتصر الأمر في ذلك على الإذاعات والتلفزيونات الأرضية والمنابر المكتوبة، بل تعداه إلى قنوات البث عبر الأقمار الصناعية وتوظيف الشبكات الألكترونية (وفي مقدمتها الإنترنيت) لترويج "المنتوج الثقافي" على نطاق عالمي ولربما كوني في المستقبل المنظور.

+ العنوان الثالث ويتراءى لنا كامنا في خاصية الاستقلالية التي يتطلع إليها الإعلام ولا تتوانى الثقافة بدورها في الدفع بذات المطلب شكلا وروحا.

والاستقلالية الملمح إليها في هذا الباب لا تنحصر فقط في مطلب التخلص من إكراهات السلطة المادية (عبر التشريعات كما عبر اللوائح الإدارية كما عبر غيرها)، ولكن أيضا من الإكراهات الرمزية التي تطاول المجال الثقافي وتجعل منه جزءا من السلط القائمة لا سلطة قائمة الذات لها مكوناتها وفاعلوها والملتزمين بمشروعها.

هي عناوين ثلاثة يلتقي الإعلام بصلبها بالثقافة طبيعة ووظيفة ودورا، لكنها لا تحول مع ذلك دون تجاوز عناصر التضاد والممانعة التي غالبا ما تطبع المجالين أو تدفع بالتمايز فيما بينهما:

+ فزمن الإعلام زمن قصير، لا يحتكم إلى المدة ولا يكترث كثيرا ببنية الحدث أو بسياقه العام أو بصيرورته على المدى المنظور. في حين أن الثقافة محكومة بالزمن الطويل وبالمدة التي تضع الحدث في سياقه العام وتربطه بالمنظومات القريبة منه أو المجاورة له أو الدائر في فلكها بهذا الشكل أو ذاك. السياق بالنسبة للثقافة أهم من الحدث لأنه هو الذي من شأنه أن يعطي للثاني معناه. بالتالي فالثقافة تجاوز للحدث، احتضان له.

هناك إذن تباين في "اختيار اللحظة" وممانعة في الفلسفة وفي زاوية الرؤية... وهو ما يجعل من الحدث الإعلامي حدثا مارا والحدث المموضع ثقافيا حدثا قارا، مستمرا في الزمن.

+ وخلفية الإعلام غير خلفية الثقافة: فالأول محكوم بخلفية دعائية (في غالبيته) وإلى حد ما تجارية واقتصادية، في حين أن خلفية الثانية سوسيولوجية ومبنية على مرتكزات اجتماعية ورمزية. بالتالي فأدوات الاشتغال متباينة ومفاهيم الحقلين متنافرة مما يجعل المنظومتين مستقلتين بالشكل كما بالمضمون على الأقل في المدى القصير. 

+ وخاصية الإعلام التخصص والاختصاص في حين أن خاصية الثقافة الشمولية والطبيعة المنظومية والإمساك بالإشكال في عموميته لا في تفاصيل جزئياته حتى وإن كان لهذه الأخيرة قيمتها ومركزها. وعلى هذا الأساس، فالحدث يستمد قيمته من مدى راهنيته في حين أن الثقافة لا تهتم كثيرا باللحظة الراهنة كونها تصاغ بشكل بنيوي لا يعتبر الحدث بصلبها إلا رافدا من الروافد ليس إلا.

هذه العناصر الثلاثة لا تجعل العمل الإعلامي ينفر من الثقافة فحسب (كونها آخر المفكر فيه من بين ظهرانيه)، بل ويتعامل معها بسطحية وهامشية أو يعمل في تناولها أدوات الإعلام عوض الأدوات المفاهيمية التي هي من خصوصيات العملية الثقافية بل ومن مرتكزاتها.

لا يخرج الإعلام العربي (وقنواته الفضائية تحديدا) عن عناصر القرب كما عن عناصر التضاد مع الثقافة. لكن نظرة عامة للقنوات الفضائية يبين بجلاء أن الثقافة من بين ظهرانيها إنما هي مكمن إشكال بامتياز على الأقل لثلاثة أسباب كبرى:

+ الأول ويكمن في ضمور الاهتمام بالثقافة ضمن شبكة برامج هذه الفضائية كما ضمن تلك.

قد لا يجد المرء غضاضة في فهم ذلك إذ طبيعة الحقلين مختلفة والاهتمام بالثقافة قد لا يبدو مكمن رهان كبير إما بحكم طبيعة الجمهور (التواق للترفيه والإخبار كما يقال) أو بسبب الخاصية الغثة للثقافة والتي تجعلها بآخر الترتيب في تصنيف لاسويل الملمح إليه سابقا.

هناك إذن تهميش للمسألة الثقافية بالفضائيات العربية إما للتبريرات المقدمة أو لمسوغات أخرى خاصة بفلسفة هذه القناة أو تلك (كونها لا تدر مداخيل إشهارية كما يتردد أو لا يتعامل معها إلا ذوو الاختصاص).

+ السبب الثاني ويتمثل في هزالة المضمون المتنوع والشامل وطغيان البعد التسطيحي والتجزيئي في تناول المسألة الثقافية من لدن هذه القنوات أو على الأقل من لدن غالبيتها.

فالعديد من القنوات إياها لا تكتفي باختزال الثقافة في الشعر والأدب والمسرح والسينما وغيرها، بل ولا ترى من بين ظهرانيها ضرورة الاهتمام بباقي الميادين في العلوم الإنسانية والاجتماعية والدينية وما سواها (كونها جافة كما يقال وليس بمقدور الجماهير استساغتها).

يبدو الإشكال هنا كما لو أنه إشكال أنتروبولوجي يجعل الإنسان العربي لصيقا بميادين دون سواها، بل ويقدم نفسه للعالم على أساسها. وهو أمر لا يرهن واقع الثقافة العربية فحسب, بل ويرهن أيضا مستقبلها ومستقبل التنوع بصلبها.

+ أما السبب الثالث فيتمثل في الطابع التغريبي الطاغي بمعظم المنابر العربية والذي يحول دون ترك بعض من المجال لما قد يكون ثقافة عربية أو تراثا عربيا أو تحقيقات عربية أو غيرها.

وهو أمر من اليسر التأكد منه من خلال ما يرصد بالشبكات البرامجية للبرامج والمسلسلات والأفلام والإعلانات المطبوعة بطابع غربي حتى وإن كانت شخوصها عربية أو ناطقة بالعربية. كل ذلك على خلفية من أن طبيعة الجمهور هي التي تفترض ذلك وتطالب به.

هناك إذن خلل كبير لا يعتبر ما سردناه سابقا إلا مظهرا من مظاهره البائنة. أما الإشكال برمته فيتراءى لنا خارج كل ذلك أو لنقل تحديدا من خلفه.

والإشكال القائم إنما يكمن في رأينا في غياب رؤية ثقافية بأرض الواقع بإمكان الفضائيات (وغيرها من المنابر) تبنيها وتكريسها والترويج لمفاصلها بل البناء على أساس من استحضارها.

 والرؤية المقصودة هنا إنما تلك التي من شأنها إلهام الاستراتيجيات وبناء السياسات واستقطاب الموارد والكفاءات التي من المفروض أن تكون خلف تنفيذ ذلك وتكريسه بأرض الواقع... لم إذن مطالبة الإعلام بتبني الإشكالية الثقافية وذات الإشكالية غير موجودة بواقع الحال؟ أليس من التجني على الإعلام تكفيله برسالة هي جزء من ثلاثيته ليس إلا؟

قد يكون الأمر كذلك، لكن الذي لا شك فيه أن الثقافة العربية مهمشة بواقع الحال كما من على صفحات الجرائد والمجلات كما من على شاشات الفضائيات.

* "الإعلام العربي والمسألة الثقافية"، التجديد العربي، 12 يوليوز 2006.

 

 

Vous pouvez partager ce contenu