Aller au contenu principal

"قواعد عسكرية أمريكية بالعراق"

news-details

قد لا يستطيع المرء، سيما ذي الثقافة العسكرية المتواضعة، إدراك المقصود من "الانسحاب التدريجي من العراق"، أو من "إعادة انتشار" الجنود الأمريكان المرابطين به منذ مارس من العام 2003، أو من "إعادة التموقع خارج المدن والتجمعات البشرية ذات الكثافة العالية"، أو ما سواها. هي تعابير وعناوين هلامية بالقطع بالنسبة للعامة من بيننا، لكنها محيلة صوبا، بنظر مروجيها، على ترتيبات عسكرية دقيقة، استوجبتها وتستوجبها ظروف ومعطيات وتداعيات المعركة على الأرض، هناك بالعراق.

وبصرف النظر عن هذا العنوان أو ذاك، عن هذا التعبير أو ذاك، فإن واقع الحال بالعراق اليوم إنما هو واقع احتلال بامتياز، بقوة السلاح المباشر تأكيدا، بغطاء شرعي من الأمم المتحدة واضح، لا يقبل تأويل، وباعتراف غير ممارئ من لدن دول الجوار، جوار العراق...لا تنفي الترتيبات العسكرية "الداخلية" إياها، ذات الواقع أو تنتقص من مداه، بقدر ما تتعامل معه بسياقات اشتداد المقاومة المسلحة، وتزايد نزيف القوات الأمريكية، وفشل العملية السياسية المزعومة، وعصي الحل "النهائي"، الممهد لرحيل سلطات الاحتلال من هناك.

وإذا كنا على قناعة تامة، بأن ذات الرحيل هو أمر حتمي طال الأمد أم قصر، وقد كان له أن يتم منذ مدة لولا مكابرة الرئيس الأمريكي، فإننا على قناعة تامة أيضا بأن الأمريكان إنما يرتبون على ضوء ذلك، أو لربما منذ اليوم الأول لدخولهم العراق، ل"بقاء دائم" ليس فقط عبر سفارة ستكون هي الأضخم لديهم بالعالم، بل عبر بناء قواعد عسكرية تؤمن لهم مصالحهم في مرحلة ما بعد إنهاء الاحتلال رسميا.

وعلى الرغم من أن إدارة المحافظين الجدد تعمد إلى التكتم المطبق بهذا الجانب، فإن الجاري على الأرض، وبما يصدر من تلميحات أيضا، إنما يشي بأن الأمريكان باقون بالعراق لآجال غير محددة...أعني غير محدودة، حتى وإن لم يجهروا صراحة بذلك.

يقول الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بهذا الخصوص (في فبراير من العام 2006): "هناك أشخاص في واشنطن...لا ينوون أبدا سحب القوات الأمريكية من العراق، ويتطلعون إلى الاستمرار بالبقاء على مدى 10، 20، 50 سنة القادمة...إن السبب الذي دفعنا إلى الذهاب للعراق هو إنشاء قاعدة عسكرية دائمة في منطقة الخليج، ولم أسمع أبدا من أي من قادتنا يقول إنهم سيتعهدون لشعب العراق، الالتزام بسحب قواتنا على مدى عشر سنوات من الآن، مع تصفية القواعد الأمريكية في العراق".

هو قول حق، تأكد علانية وبالملموس الحي، إذ باشر الجيش الأمريكي، ومنذ الأيام الأولى لدخوله العراق، في تشييد قواعد له جديدة (أو توسيع قواعد الجيش العراقي السابق) تجاوز عددها اليوم المائة قاعدة، يعمد منذ مدة إلى تجميعها بأربعة عشر قاعدة كبرى بمنطقة كردستان، بمطار بغداد، بمحافظة الأنبار، بالمناطق الجنوبية الغربية من بغداد، وبغيرها.

هي قواعد ضخمة بكل المعايير، كاملة العدة والعتاد، مجهزة بمدرجات للطيران الحربي والمدني، بمآرب وطرق فرعية وتحصينات أمنية فائقة، وبمساكن عديدة للجنود، كما للمدنيين المصاحبين لهم، أو العاملين معهم، أو المعاضدين لعملياتهم.

وبغض الطرف عن العدد النهائي لهذه القواعد، أو جهة تمركزها، أو الوظيفة الموكلة إليها، فإن الفلسفة الثاوية خلف إقامتها إنما جعلها "الدرع الضارب"، للدفاع عن أهداف لولاها لما كان من قيمة تذكر لغزو العراق أو احتلاله:

+ فهي التي سيكون من شأنها، وبعين المكان، حماية احتياطي من أضحم احتياطات العالم غازا ونفطا، وتأمين انسيابه، وضمان وصوله للأسواق العالمية، وضمنها حتما السوق الأمريكي الواسع، والمتزايد الاستهلاك.

إن وضع اليد من لدن الأمريكان على النفط العراقي، وقد شارف "قانون النفط والغاز" على الاعتماد، إنما سيعطي لشركاتهم الكبرى امتياز الاستغلال، ويمنحهم السلطة في تحديد الأسعار، ويعطي القدرة لإدارتهم في ابتزاز منافسيها (وضمنهم قطعا الصين الصاعدة) كما حلفائها سواء بسواء...من يا ترى سيحمي الشركات إياها، ويؤمن لها الآبار، ومواقع التكرير، وطرق التصدير، إذا لم تكن القواعد العسكرية المرابطة بعين المكان، أو بمقربة منه؟

+ وهي (القواعد أقصد) التي من شأنها الإشراف الميداني على موقع جيو/ستراتيجي، يعطي الأمريكان القدرة العملية للتدخل المباشر والسريع، بمنطقة قابلة للانفجار بأي وقت، جراء تزايد الاحتقانات السياسية، والتطاحنات المذهبية، وارتفاع منسوب العنف الطائفي من بين ظهرانيها...كيف السبيل لاستباق الانفجار، إذا لم تتوفر بالقرب وبعين المكان، قاعدة عسكرية تكون أدوات التدخل لديها قابلة للتحرك دون انتظار؟

+ وهي التي، فضلا عن كل هذا وذاك، القادرة على درء أي نفوذ إيراني بمنطقة (منطقة الخليج) صنفتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منطقة نفوذ كبرى، يحرم الاقتراب منها، أو المساومة على ثرواتها، أو التهاون في الإطباق عليها إن هي تمنعت، أو راهنت على تحالفات جديدة خارج المرسوم لها من خطوط.

إذا كان الأمر كذلك بالسابق من أزمان، فكيف سيكون الحال اليوم وإيران تسير صوب امتلاك أسلحة نووية، قد تستهدف بها حليف أمريكا الأول بالمنطقة (إسرائيل أعني) وتفسد عليهما حساباتهما بكل المنطقة، ولربما أيضا بجهات عديدة أخرى من العالم.

هي كلها إذن وبالمحصلة، اعتبارات كبرى (ودفوعات أيضا) تدفع بتصميم الأمريكان لإقامة قواعد عسكرية لهم بالعراق، إذا لم يكن بكل فضائه الجغرافي، فعلى الأقل بالمناطق ذات الأولوية الاستراتيجية القصوى.

لا تعدم الإدارة الأمريكية الأفكار والادعاءات لتسويغ ذلك، كل ذلك بالجملة والتفصيل، هي التي لم تخجل يوما من الجهر بالدفاع عن مصالحها القومية، ولم تتلكأ أو تتردد في استخدام القوة أو التلويح باستخدامها، عندما تتعرض ذات المصالح للتهديد، أو للمزايدة أو لما سواها.

لكن المستجد في المسوغات حقا، إنما قول الرئيس الأمريكي ب"وجوب"البقاء في العراق طالما بقيت في الأفق نذر من الإرهاب تلوح، وب"ضرورة" البقاء هناك لمحاربة دعاته وممارسيه بعقر دارهم، والحيلولة دون إعادة توسيع مجال فعلهم ليطاول من جديد أمريكا، أو حلفاءها العرب بالمنطقة، أو باقي أصدقائها بشتى ربوع وأصقاع الأرض.

قد يتفهم المرء خلفيات رئيس أمريكي محبط، ضاقت به السبل وتلاشت من بين يديه، ولم يعد يلوي على شيء يقدمه أو يؤخره (بعد هزيمة جيشه، وفشل حلفائه "العراقيين"). قد يتفهم المرء ذلك، لكنه لا يستطيع فهم الآية من ربط البقاء الدائم بالعراق مع الحرب على الإرهاب، إلا في سياق ترهيب مواطنيه من تبعات الانسحاب، وتخويف العراقيين من الفوضى القادمة إن هم انسحبوا، وتخويف دول المنطقة بالخطر الإيراني القادم، إن هم زايدوا على الأمريكان بجهة نيتهم إقامة القواعد العسكرية...وهكذا.

لا يقتصر الأمر هنا عند ترهيب الشعب الأمريكي المناهض للتواجد العسكري بالعراق، أو عند تخويف الشعب العراقي المدمر أصلا من ذات التواجد (وتخويف حكومة الاحتلال القائمة من بين ظهرانيه بوجه التحديد)، ولا عند إثارة الخشية والهلع لدى حكومات الخليج الأخرى، بل يتعداه لدرجة ابتزاز جورج بوش لغرمائه الديموقراطيين الذين اعتمدوا، أواخر يونيو الماضي، بالكونغرس قانونا "يقضي برفض إقامة أية قواعد عسكرية دائمة للقوات الأمريكية بالعراق".

هو قانون محرج "للرئيس" دون شك، حتى وإن كان غير ملزم له، لكنه بالقطع من القوانين التي تظهر الحق بالشكل، لكنها تضمر للباطل بالمضمون. إذ ثمة بين الكونغرس والبيت الأبيض توافقا راسخا، ومنذ قدم العهود، على طبيعة السياسة الخارجية وخطوطها الكبرى. وثمة عرفا بينهما قائم مفاده أن الاختلاف لا يجب أن يطاول الجوهر، وليس ثمة من إشكال إن طاول الأدوات والوسائل.

يقول نائب ديموقراطي تعليقا على القانون إياه، وتوضيحا لمسلمة قارية السياسة الخارجية: "إن التأكيد في الكونغرس، أنه لن يكون هناك قواعد عسكرية أمريكية دائمة في العراق (إنما) يسهم في تخفيف الضغط على جنودنا..."، وليس لاعتبار آخر، نضيف من جانبنا.

وإذا كنا على يقين بأن مستويي السلطة بأمريكا، سينتهوا حتما بالنهاية، إلى اعتماد صيغة تضمن لهم تواجدا عسكريا دائما بالعراق ("باتفاق مع الحكومة العراقية" تقول الإدارة الأمريكية)، فإن أطياف اللعبة السياسية بالعراق متوافقون، هم أيضا، على تواجد عسكري من نوع ما بالعراق... دائم:

°°- فالأكراد لم يطلبوا من الإدارة الأمريكية البقاء بالعراق، وعدم الرضوخ للمطالب المتزايدة بجهة جدولة الانسحاب فحسب، بل كالوا لها أشد العتاب كونها لا تزال تتلكأ في اتخاذ قرار ببناء قواعد عسكرية دائمة لها بمنطقة كردستان.

هم لا يرون في إقامة ذات القواعد "حماية" لمنطقتهم من تهديدات الجيران فحسب، بل وأيضا أداة كبرى من شأنها مساعدتهم في ترتيب الانفصال عن الوطن/الأم، عندما تسنح  السياقات، وتتوفر الظروف الإقليمية للإعلان عن ذلك، دونما تداعيات عليهم أو على المحيط.

°°- وشيعة الأحزاب الطائفية (من مجلس إسلامي أعلى، وحزبي الفضيلة والدعوة وما سواهم، دعك من التيار الصدري التائه) إنما يسترجون الإدارة الأمريكية إقامة قواعد دائمة "تحميهم من سيناريو عودة احتكار السنة للسلطة"، وتضمن لهم (عندما يعمد إلى فدرلة البلاد عمليا) تأسيس إقليم لهم بالجنوب، مستقل، قابل للديمومة، قادر على المزاوجة بين خدمة حماتهم من الأمريكان، وإرضاء ذوي نعمتهم من الإيرانيين.

°°- أما الطائفة السنية (سيما طيفها المندمج بالعملية السياسية الفاشلة)، فتراهن على بقاء الأمريكان، ولا تتمنع ضمنا في إقامة قواعد لهم دائمة، إذا كان من شأن ذلك الحؤول دون استمرار تدهور مكانتهم، وتراجع كلمتهم "بالسلطة"، والتجاوز على دورهم في تقرير حال العراق ومآله.

الكل إذن يراهن على تواجد عسكري أمريكي من نوع ما ولغاية ذاتية ما، لكن ذات الكل لم يستحضر فيما يبدو، موقف المقاومة العراقية من كل ذلك...ألم يكن لهم جميعا أن يستقرئوا رأيها قبلما يراهنوا على هذه الجهة أو تلك؟

لو كان من بين هؤلاء من تتوفر لديه البصيرة، ويتمتع بنور البصر، لما تجاوز على فاعل من طينة المقاومة العراقية، بيدها سبل الحسم والفصل، وكلمة الحل والعقد بالعراق القادم.

* "قواعد عسكرية أمريكية بالعراق"، التجديد العربي، 20 غشت 2007. التحالف الوطني العراقي، 21 غشت 2007. جريدة التجديد، الرباط، 24 غشت 2007. شبكة الرافدين، 5 شتنبر 2007. موقع المواطنة العراقية، 10 شتنبر 2007.

Vous pouvez partager ce contenu