علي الوردي، دار كوفان، لندن، 1994، 292 ص.
بالمقدمة، نقرأ: "لا حاجة بنا إلى تعريف ابن خلدون. فهو أشهر من أن يعرف. إنه يعد من أعظم المفكرين في العالم. وقد جاءت شهرته من كونه أول من درس المجتمع البشري بطريقة واقعية، حيث خرج بها عن الطريق الوعظية التي كانت مسيطرة على الأذهان طيلة القرون القديمة والوسطى".
يذكر الكاتب بأن بحثه لن يسير على طريق ما هو متداول، بل سيركز على ناحيتين من نظرية ابن خلدون: المنطق الذي بنى به نظريته، ثم العوامل الفكرية واللافكرية التي ساعدته على بنائها. إنه يتطلع للوقوف عند الجوانب الفلسفية والمنطقية لنظرية ابن خلدون، عوض الوقوف من جديد عند الجوانب الاجتماعية التي طغت على ذات النظرية.
لماذا ابن خلدون من جديد؟ يتساءل الكاتب. ويجيب: لأن الرجل "كان يعيش في مرحلة فكرية تشبه من بعض الوجوه هذه المرحلة التي نعيش فيها نحن العرب الآن".
ولوضع السياق العام، يذكر المؤلف بأن الفلاسفة الإغريق، أفلاطون وأرسطو، كانوا أناسا لا يفهمون ما يعانيه العبيد والعمال وأصحاب المهن. لم يكونوا يحسون بمعاناة هؤلاء. لذلك، كان "تفكيرهم محصورا فيما بينهم وبين تلامذتهم. الحياة عندهم منفصلة عن شبكة الحياة بما هي علاقات وعوامل مختلفة".
كانوا يحاورون تلامذتهم في الحقائق المطلقة، بمعزل عن الحياة الواقعية. هذه الأخيرة تحط في نظرهم مقامهم، لأنها من صفات العبيد والعمال. كان تفكيرهم طوباويا وليس واقعيا. "أفادوا العلم وأضروا به في الآن معا. اعتبروا أنفسهم من الأسياد، فتجاهلوا الواقع المعاش".
من هنا أهمية الطفرة التي أتى بها ابن خلدون: "إنه قام بأول محاولة جدية للنزول بالفلسفة من عليائها وللدخول بها في معترك الحياة الواقعية".
يذهب البعض حد القول بأن ميكيافيلي استقى أفكاره من ابن خلدون، لكن هذا لا يمكن أن يستقيم بنظر المؤلف، لأن ميكيافيلي قدم "مجموعة من النصائح العملية للأمير بغية الانتفاع بها في سياسة رعاياه. إنه لم يقصد أن يؤسس علما في الاجتماع له أصوله وقواعده كما فعل ابن خلدون".
ابن خلدون كان خبيرا اجتماعيا وفيلسوفا في آن واحد، أما ميكيافيلي، "فأقصى ما يمكن ان نصفه به هو انه كان خبيرا اجتماعيا فقط". أما الناس، فلا يذكرون ابن خلدون بمثل ما ينظرون لميكيافيلي، لكن غضبوا منه وذموا كتبه، لأنهم لم يجدوا فيها بذرة دين أو أخلاق. لذلك، "أصبح إسم ميكيافيلي سبة في الأفواه، يذكره الناس كلما أرادوا التحدث عن سياسة المكر والخداع. لقد صار مرادفا للشيطان نفسه".
في الآن ذاته، لم يحصل ابن خلدون على مثل هذه السمعة السيئة، بيد أن آراءه كانت تغلف بأسلوب دبلوماسي براق، يعطي به العديد من السلوكات المنحرفة بناء على استشهاداته بالآيات القرآنية وبالأحاديث النبوية والإكثار من تعابير من قبيل "والله أعلم" و"هو الهادي للصواب"...الخ.
بالفصل الأول، يتحدث الكاتب عن "خصائص المنطق القديم"، وذلك بغرض فهم موقف ابن خلدون. ويلاحظ هنا أن المنطق الأرسطي يتميز بخاصيتين: هو منطق صوري ثم استنباطي.
أما القول بأن منطق أرسطو هو منطق صوري، فلأنه يهتم بصورة الشيء ويهمل مادته: صورة التمثال لا المواد التي صنع بها. والقصد أن هذا المنطق يقف عند صورة الظواهر ومظهرها، ولا يغوص في مادتها، أي محتواها الاجتماعي بما هو وقائع جزئية تتغير وفق الظروف.
صحيح أن أرسطو شدد على تلازم الصورة والمادة، لكن أتباعه أهملوا هذا التلازم، وغاصوا في التفكير المجرد "الذي هو بعيد كل البعد عن مجريات الحياة الواقعية". بالتالي، اعتبر هؤلاء أن الوقائع الجزئية لا تؤدي إلى علم يقيني صحيح، إذ "إن العلم الصحيح في رأيهم، هو الذي ينتج عن النظر في الأمور الكلية العامة".
إنهم بذلك برأي الكاتب، إنما "يعيشون في أبراج. يحلقون في السماء، ويتركون الأرض حيث يعيشون".