محمد العربي، مركز الدراسات الاستراتيجية، الإسكندرية، 2018، 92 ص.
بمقدمة هذه الدراسة، نقرأ التالي: إن "بناء السيناريوهات هو المنهج الأكثر أصالة في الدراسات المستقبلية. فقد كان أبرز إسهامات هذا الحقل المعرفي الجديد إبان انتقاله من التفكير الفلسفي والطوباوي في المستقبل، إلى تفكير أكثر منهجية وإحكاما وربما علمية في معاهد الفكر والتخطيط الاستراتيجي في الغرب، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية".
ويتابع: "تزداد أهمية بناء السيناريوهات مع تزايد الاهتمام بالقضايا الأكثر تركيبا وتعقيدا، وفي ظل سيادة اللايقين في عالمنا المعاصر".
في تعريفه لمعنى السيناريوهات، يؤكد الكاتب أن تعريفاتها تتعدد حسب السياق الذي يستخدم فيها. فالاستخدام المتداول يشير إلى "وصف المسار المستقبلي لأحداث ما، خاصة فيما يتعلق بمتغير واحد. وهذا يضاهي التوقعات التي يتم استخدامها في رصد تغيرات الطقس أو الحالة المرورية مثلا، فضلا عن استخدام السيناريوهات لوصف تطور أحداث سياسية أو اجتماعية في بلد ما".
يحدد هرمان كان، الأب المؤسس للتفكير في السيناريوهات، بأن هذه الأخيرة هي "سلسلة من الأحداث الافتراضية الواقعة في المستقبل، والتي يتم بناؤها لإيضاح سلسلة ممكنة من العلاقات السببية والقرارات المتعلقة بها".
أما بول شوميكر، فيرى أن "السيناريوهات طريقة تفكير منضبطة لحل المشكلات والتعامل مع تحديات عدم اليقين والتعقد ومواضع الخلل الإدراكي لدى الأفراد".
بالبناء على ذلك، يرى الكاتب أن السيناريو يمكن أن يعرف على مستويين: "يتمثل المستوى الأول في كونه وصفا لوضع مستقبلي ممكن. أما المستوى الثاني، فيتضمن مسارات تطور مختلفة قد تؤدي إلى هذا الوضع المستقبلي".
ثم بالبناء على ذلك أيضا، يمكن القول إن "السيناريوهات تمثل صورا عن المستقبل تجسد المسارات الممكنة التي يمكن أن يتخذها هذا المستقبل، بداية من الحاضر وصولا إلى وضع ما في ذلك المستقبل الممكن، والذي يتشكل بالأساس من تفاعل عدد من القرارات والأحداث والعوامل الواقعة في الحاضر".
أما عملية بناء السيناريوهات، "فهي العملية التي يتم من خلالها رسم هذه الصور المستقبلية من الأحداث، والتي تتضافر في تكوينها الاتجاهات الواقعة في الواقع، في الحاضر، والعوامل اللايقينية التي قد تغير من طبيعة هذه الاتجاهات في المستقبل، وتستهدف هذه العملية بناء سياسات واتخاذ قرارات حيال صور المستقبل البديلة".
ولذلك، فإن السيناريوهات تحمل مجموعة من الملامح الكبرى:
°- أنها ليست صورة شاملة عن المستقبل. "فهي تتشكل من صورة محددة ومجزأة من الواقع يجري إعادة تشكيلها، لتقدم صورة متماسكة عن مستقبل تدعي أهمية النظر إليه بعين الاعتبار، دون أن تحيط به كليا".
°- تقوم السيناريوهات على افتراضات معينة حول ما قد يبدو عليه المستقبل. السيناريوهات هنا ليست تكهنات، لأنها تتمتع "بشروط تتمثل في التماسك والشفافية والأهمية بالنسبة لمستخدميها ووثاقة الصلة بهم".
°- ليست السيناريوهات توقعات. إنها تحاول "الإجابة عما قد يحدث في حال وقوع ظروف معينة تدخل نطاق عدم اليقين حول المستقبل".
المستقبلات الممكنة في هذه الحالة، غالبا ما تفتح "دوائر أوسع لتصور المستقبل من النقطة الزمانية الحالية التي تنطلق منها عملية البناء".
بالتالي، فإن "الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه بناء السيناريوهات هو تعددية المستقبل ولانهائية الاحتمالات التي قد تتخذها أو تنتهي إليها مسارات الحاضر".
من جهة أخرى، فالسيناريو الواحد قد يفرز مستقبلات عدة بديلة، إذ "دائما ما تنتج عملية بناء السيناريوهات سيناريوهات متعددة، يمكن أن يكون كل منها بديلا عن الآخر".
ويرتكز بناء السيناريوهات على نماذج أصلية تعتمد ثلاثية "الاستمرارية- الانهيار-التحول"... وكلها تبدأ باستكشاف المستقبلات البديلة قياسا إلى الماضي، ثم الحاضر، مع وضع إطار للسيناريوهات المفضلة. تكون الغاية هنا هي الانتقال إلى الفعل وليس الاقتصار على كشف العلاقات.
من هنا، فإن السيناريوهات التحولية هي التي تعطي الإمكانية للتأثير في المستقبل من خلال الفاعلين المختلفين، سواء كانوا أفرادا أم جماعات، كل وفق موقعه وقوته.
من ناحية أخرى، فإن استخدام بناء السيناريوهات غالبا ما تكون له وظائف محددة: معرفية لبناء الحاضر والمستقبل، استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار جوانب التكيف والمرونة، اتصالية بين مختلف عناصر الكيان أو النظام...الخ.