عبد الإله بلقزيز، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، 2000، 181 ص.
بمقدمة هذا الكتاب، يقول المؤلف: ازدهرت في ثقافة العرب المعاصرة "الدعوية كما لم يزدهر فيها منزع أو قبيل. وكثر فيها الدعاة من المتقولة المتحرصين بما يفيض عن حاجتها لشطح القول والنظر. بل بات الداعية فيها أميرا للكلام، تنعقد له الولاية، وينقاد إليه المبايعون انقياد المعتقد عن إيمان، المستكين النفس إلى اطمئنان".
هو "هوس دعوي مرضي انتاب الثقافة العربية"، يقول الكاتب، "فابتذلها أسوأ ابتذال".
كان الداعية في القدم معروف ببطاقة هويته الفكرية، أما اليوم "فقد تناسل الدعاة من بعضهم كالفطر، وباتوا يحتلون المشهد كاملا بألوان الطيف كافة: الاشتراكية والقومية والوطنية والليبيرالية...الخ".
ويحسم الكاتب: "آن للداعية أن يصمت، وأن ينسحب من المشهد بهدوء، كي يفسح فرصة للمثقف الباحث، كي يزود ثقافته بمساهمة هي في عوز إليها".
إن تاريخ ما يسميه الكاتب بالمثقف العربي المعاصر، على صعيد المعرفة هو "تاريخ المرجع في وعيه، نعني تاريخ علاقته بالمنظومات الفكرية التي ينشد إليها وعيه انشداد الولاء والانتهال، أو انشداد النقد والسؤال". وهما المرجعان (العربي/الإسلامي الكلاسيكي الموروث والأوروبي الغربي الحديث) اللذان أسسا لإشكالية الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة.
المثقف بنظر الكاتب، "باحث في الشأن الاجتماعي والتاريخي والسياسي والثقافي، متأمل في ظواهر اجتماعية كبرى، تحتل فيها فعالية الناس (الجمهور) حيزا كبيرا...لكن المثقف متطلع بجوار ذلك، إلى تخطي لحظة التفكير والتحليل في الظاهرة، إلى لحظة التعويل على نوع من أنواع الفعالية الاجتماعية، وعلى تجنيد نظرته إلى الجمهور، في مشروع اجتماعي أو سياسي يقع خارج نطاق المعرفة والتحليل".
المثقف يتجاوز هنا، بنظر الكاتب، دوره كباحث أو حامل وعي، ليصبح صاحب رسالة اجتماعية "تتخطى مجرد إنتاج القيم المعرفية".
نحن إذن، يلاحظ المؤلف، أمام صنفين من المثقفين: مثقف شعبوي يقدس الجمهور ومثقف نخبوي يحتقر العامة.
أما علاقة المثقف بالسلطة، فهي بنظر الكاتب، "العلاقة النموذجية للتوزع والتنوع الأكثر خصوبة، بين الإقدام والإحجام، بين الانفتاح والانغلاق، وبين الانتماء والانكفاء".
المثقف هنا هو، من جانب، عقل السلطة ولسانها، ومن جانب آخر، "ضمير المعارضة الأعلى والأمثل وصوت المستضعفين". الثنائية الحاكمة لعلاقة المثقف العربي بالسلطة، هي ثنائية المعارضة والموالاة. هو ملتزم مع الجماهير وملتزم مع السلطة. لذلك، وبما أنه ملتزم، فهو عضوي على قول غرامشي.
المثقف العربي الحديث هو سليل المثقف التقليدي الكلاسيكي الذي كان لمقامه وزن، وكان كلامه مسموعا لدى السلطان ولدى العامة. بيد أن المثقف الحديث لم يعد بذاك الوزن الذي كان عليه سابقوه، إذ لفظته السلطة وتبرمت عنه الجماهير، لفائدة مصادر شرعية ومعرفية لا تستحضر دوره دائما.
ومع ذلك، يتابع الكاتب، لا يزال هذا المثقف "يتقمص دور الداعية ويسند لنفسه أدوارا تتخطى قدرته الفعلية على الأداء والإنجاز. مازال أسير صورته على نفسه، التي رسمتها له ظروف لم تعد موجودة". إنها مكابرة من لدنه: "مكابرة لفظية ضد الاعتراف بالهزيمة: هزيمة صورة ودور".
يرجع الكاتب ذلك إلى ما يسميه ب"أمراض المثقفين". وأولاها النرجسية، حيث ينبري العديد من المثقفين إلى مديح الذات في حضرة الآخرين، والتحاجج: لا كلام إلا كلامه ولا مراجع إلا مراجعه.
أما المرض الثاني، فهو "إدمان الانتباه الزائد إلى ما يكتب عنه والعناية به دون سواه". يذهب الأمر ب"صاحبنا" (أي المثقف) حد "حث الناس على الكتابة عنه في الصحف والدوريات".
أما ثالثها، فهو "إبداء الترفع والعجرفة في العلاقة بأصحاب المقالات الأخرى من المثقفين، والتعاطي معهم بالتجاهل والإنكار، واحتقار ما يصدر عنهم من آراء". إن هذه الأمراض تنفي نقيضها: أي الحوار والنقد.
أما المازوشيون من المثقفين العدة، فهم أولئك الذين "يحقرون أنفسهم أشد التحقير، ويعبرون عن أعلى درجات الشعور بالدونية وبفقدان الثقة في الذات". إن غياب الثقة في الذات يجعل هؤلاء جميعا لا يتوفرون على الطاقة للإنتاج والإبداع.
لذلك، فالمؤلف يطالب هنا بضرورة تجاوز هذه الأمراض، من خلال تثمين قيم أربع كبرى: "النسبية والموضوعية في التفكير، وروح المناظرة العلمية والجدل الموضوعي في النقد، وحس المراجعة والنقد الذاتي، ثم روح المسؤولية المبنية على الثقة المتوازنة في النفس".