تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"عالمنا الافتراضي: ما هو؟ وما علاقته بالواقع؟"

بيير ليفي (ترجمة رياض الكحال)، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، 2018، 225 ص.

ينطلق المؤلف من فكرة أن ثمة حركة "افترضان" تصيب المعلومة والاتصال، "وتصيب الأجساد وسير الاقتصاد والأطر الجماعية العامة": مجتمعات افتراضية، شركات افتراضية، ديموقراطية افتراضية...الخ. ويتساءل: "هل علينا أن نخشى الانفصال العام عن الواقع؟...هل نحن معرضون لخطر قيامة ثقافية؟".

يسلم الكاتب هنا، بأنه على الرغم من تزايد المظاهر القاتمة والمخيفة، فإن ثمة جنوحا نحو "البشرنة" (التنميط البشري الإيجابي). الافتراضي برأيه، ليس الزائف أو الوهمي أو الخيالي: "فليس الافتراضي ضد الواقعي أبدا. إنه على النقيض من ذلك، نمط وجود خصب وقوي، يغني عمليات الإبداع ويفتح آفاق المستقبل، ويحفر آبارا من المعاني تحت سطحية الوجود الفيزيائي الآني".

إن لهذا الكتاب، حسب صاحبه، ثلاثة رهانات كبرى: رهان فلسفي (مفهوم الافترضان) ورهان أنتروبولوجي (العلاقة بين مسار البشرنة والافترضان) ورهان اجتماعي/سياسي (فهم الطفرة المعاصرة).

ما الافترضان؟ ينطلق الكاتب من الاعتبار أن كلمة الافتراضي غالبا ما ترد "للإشارة إلى انعدام الوجود التام، بينما تفترض كلمة الواقع إنجازا ماديا ووجودا ملموسا". وهذا تصور قائم، إذ يدل الافتراضي "على الشيء الموجود بشكل كامن، لا على الشيء الموجود بالفعل".

هنا يجب التمييز بين الممكن والافتراضي: "فالممكن متشكل تماما، لكنه يقف معلقا. والممكن سيتحقق بدون أن يؤثر أي شيء في تكوينه أو طبيعته. إنه حقيقة شبحية وكامنة".

لا يتعارض الافتراضي مع الحقيقي، ولكن مع الفعلي، لأن الافتراضي يحتاج برأي الكاتب، إلى تفعيل. الفارق هنا ثابت بين الوقوعية (حدوث شيء ممكن محدد مسبقا) والتفعيل (ابتكار حل يتطلبه مركب إشكالي). لا يعتبر التحول الافتراضي "حالة انفصال عن الواقع (تحويل واقع إلى مجموعة ممكنات)، وإنما هو طفرة هوية وانتقال الفرص ذي الصلة من مركز الثقل الأنطولوجي".

يقوم المنطق العام هنا، بتحويل الافتراضي الذي لا يمكن إدراكه، إلى شيء متم للواقعي وملموس (العمل عن بعد بشركة ما مثلا). الافتراضي هنا غير موجود، إذ لا يستقيم وجوده إلا بالتفعيل.

ميشيل سير مثلا، يحدد موضوع الافتراضي باعتباره "خارج هذا المكان". من هنا "فالخيال والذاكرة والمعرفة والدين إنما هي إلا نواقل افترضان، دفعتنا لترك هذا المكان قبل المعلوماتية والشبكات الرقمية بكثير".

ويقر الكاتب بوجود ما يسميه "تعدد الأزمنة والأمكنة". إذ "ما إن تتدخل الذاتية والمعنى والمناسبة حتى يمتنع الاعتداء بمساحة واحدة أو تسلسل زماني منتظم"، وإنما يعتد عندئذ "بأنماط عدة من المكانية والزمانية. كل شكل من أشكال الحياة يخلق عالمه (من الجرثومة إلى الشجرة، ومن النخلة إلى النيل، ومن المحارة إلى الطير المهاجر)، ويخلق معه حيزا وزمنا خاصين".

فحين نبني شبكة سكك حديدية مثلا، "فكأننا نقرب فيزيائيا المدن أو المناطق المترابطة بالسكة الحديدية بعضها من بعض، ونبعد من تلك المجموعة من المدن والمناطق غير المترابطة". ولكن بالنسبة إلى الذين لا يستخدمون القطار، تبقى المسافات السابقة على ما هي عليه. ونستطيع قول نفس الشيء بالنسبة للسيارة والطائرة والهاتف.

ويلاحظ المؤلف أن ثورة النقل عقدت الفضاء. ضيقته وغيرته، "لكن ذلك كان حتما على حساب تدهور كبير للبيئة التقليدية". بالتالي، ف"نحن موجودون في آن واحد هنا وهناك، بفضل تقنيات الاتصال والتواجد عن بعد". فالهاتف هو جهاز وجود عن بعد، "فلا ينقل صورة أو تمثيلا للصوت فحسب، بل ينقل الصوت نفسه".

في حديثه عن النص، يعتبر الكاتب أن هذا الأخير هو شيء افتراضي ومجرد ومستقل عن أي ركيزة افتراضية. هذا "الكيان الافتراضي يفعل بلغات وترجمات وإصدارات ونسخ وصور عديدة".

لقد دفعت الكتابة إلى "ظهور نظام للتواصل تكون فيه الرسائل منفصلة غالبا في الزمن والمكان عن مصدر إرسالها، وبالتالي يتم تلقيها خارج إطارها". هذا النص الدينامي "يعيد تشكيل الوجود المشترك للرسالة وسياقها الحي المحيط بها، والذي يميز التواصل الشفهي".أما بالنسبة للنص التشعبي، فإن الشبكات الرقمية تقوم ب"تهجيره"، لتبرز "نصا بدون حدود واضحة ولا باطنية محددة".

إن الرقمنة، بنظر الكاتب "ترسي نوعا من الحقل الدلالي الهائل، الذي يمكن الولوج إليه من أي مكان. كما أن باستطاعة أي شخص أن يساهم في إنتاجه وثنيه بطرق مختلفة، وإعادة النظر فيه وتعديله وإعادة ثنيه". بالتالي، يمكننا "أن نتخيل أن الكتب والصحف والمستندات الفنية والإدارية المطبوعة، لن تكون غالبا في المستقبل سوى عروض مؤقتة وجزئية لنصوص تشعبية عبر الإنترنيت، غنية ومليئة دوما بالحياة".

إنها ثقافة النص بتعبير الكاتب، وذلك بما "تتضمن من تباين زمني في التعبير، ومسافة نقدية في التفسير، وإحالات كثيرة ضمن عالم دلالي متداخل النصوص، مدعوة على العكس، إلى الانتشار الهائل في فضاء الاتصالات الجديد للشبكات الرقمية".

نافذة "قرأت لكم"

18 شتنبر 2025

يمكنكم مشاركة هذا المقال