تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟" لريمي ريفيل

ريمي ريفيل (ترجمة سعيد بلمبخوت)، عالم المعرفة، العدد 462، يوليوز 2018، 240 ص.

بمستهل هذا الكتاب، يطرح الكاتب رهانه الأساس: معرفة "مدى ما إذا كنا بصدد انقطاع، ليس تكنولوجيا فحسب، لكن كذلك أنتروبولوجيا وثقافيا... أو بصدد تحول جديد مثل ما شهدته الإنسانية مرات عديدة عبر التاريخ...ما مدى استمرار اضطرابات البث والمصادقة على التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل، والانقطاع والانعطاف ومرونة الاستعمال الرقمي؟ هل نحن بصدد مسألة تغيير بسيط من حيث البعد والمجال، أم أننا بصدد مواجهة تغيير حقيقي؟".

تساؤلات كبرى حقا، لكن المؤلف لا يرى للرد عليها إلا طريقة واحدة تبدو له ناجعة: "هي أن نخرج من مسالك الأفكار القديمة والآراء العامة، ثم نشرع في الملاحظة والبحث والتحليل العقلاني لفهم التحولات الراهنة".

القصد من كل ذلك ليس بنظره، إيجاد أجوبة قاطعة، بل ترتيب وفرة التشخيصات وتحديد أولويات النتائج.

يميز المؤلف بداية، في حديثه عن التكنولوجيا الرقمية، بين ثلاثة أشكال من الويب: الويب الاجتماعي أو العلائقي (منتديات، لوائح حوارات، شبكات اجتماعية ومدونات شخصية...الخ)، ثم الويب الوثائقي، الذي يشمل قواعد المعلومات والمواقع المؤسساتية والموسوعات، ثم ويب الأخبار، أي الوسائل التقليدية التي أصبحت تبث على الإنترنيت، كالمواقع الإخبارية المستقلة والمدونات الصحفية وغيرها.

أما ما يسميه الكاتب ب"السياق التكنولوجي"، فقصده منه إنما التذكير بأن المجتمعات المعاصرة تخضع لازدواجية في المعايير: هيكلة شاملة وعميقة للرأسمالية من جهة، ثم انفجار المجتمع المعلوماتي من جهة أخرى، حيث أصبح "الإبداع والمعالجة وانتقال المعلومة يشكل المصادر الرئيسية للسلطة والإنتاجية". تكنولوجيا الإعلام والتواصل تسهم هنا وبقوة في بروز نمط جديد للحياة في المجتمع.

بيد أن الأمر يستوجب تدقيقا في المفاهيم، وأولها مفهوم الرقمي ذاته. هذا المفهوم مشتق بنظر المؤلف، من النعت اللاتيني "ديجيطوس"، أي الأصبع، أي اللمس وبراعة الأصبع...أما النعت الفرنسي فيتجه للرقم: نيميريس. وهو نعت مرتبط بالحساب: الإشارة الرقمية مقابل الإشارة التناظرية. بالتالي، فإن رقمنة المعلومات واستعمال الخوارزميات قد ساعدا، بصرف النظر عن هذا الاختلاف السيميائي الدقيق، على زيادة قوة الآلات، مما أدى إلى توافر وتراكم الابتكارات التكنولوجية.

من جهة أخرى، يزعم الكاتب أن علاقة التكنولوجيا الرقمية (والتكنولوجيا عموما) مع المجتمع تحيل على طرحين: الحتمية التقنية التي تضع التقنية في صلب التغيير المجتمعي، ثم الحتمية الاجتماعية التي تؤكد على "ثقل عدم التكافؤ والانقسامات السوسيو/ثقافية حول تنمية التقنية". الأولى تقدم التكنولوجيا على المجتمع، الثانية تركز على "أهمية البنية الاجتماعية في طرق اعتماد وانتشار التكنولوجيا".

المؤلف هنا، وإن ميز بين المستويين، فهو يلح بالآن ذاته على تفاعلهما، على اعتبار أن التكنولوجيا والمجتمع "وحدتان غير مستقلتان. فهما في حالة تفاعل مستمر، ودائما في حالة تشابك... الواحد يغني الآخر".

المسألة مسألة استعمال بنظره، إذ إن الاستعمال غالبا ما يكون مضمنا بالتقنية، وأن المصممين يحددون طبيعة الاستخدامات، حتى باحتسابهم للفارق الذي قد يكون بين الاستخدام المرتقب وبين الاستخدام الفعلي، وهذا ما يتطلب ملاحظات دقيقة للممارسات وبحوثا ميدانية تجريبية لضبط طبيعة وتوجهات الاستعمال.

بيد أن الكاتب لا يتردد في التذكير بأن المنتجات الرقمية، بما فيها المنتجات الثقافية (من أفلام وكتب ووثائق وإذاعة وتلفزة...الخ) إنما تخضع لعملية تسليع واسعة، إذ "وراء المجتمع المرتبط بالشبكة، نجد البنى التحتية للتبادل والتواصل، وعلاقات تجارية ومصادمات وعلاقات قوة بين المقاولات الدولية..."، مما يجعل العلاقات بين الصناعة الثقافية وصناعة التواصل علاقات مشوشة وغير واضحة.

ومع ذلك، فنحن يقول الكاتب، إنما بإزاء سوق بلا حدود، يمكن للمرء من خلاله أن يقتني ما يشاء ومتى شاء. بالمقابل، فإن الشركات الكبرى تتجه نحو كل فرد على حدة، "وفق رغباته التي جرى تحديدها عن طريق أجهزة تقنية... يجري تحديد الجمهور وفق النوع والصنف".

ولهذا السبب أصبح للويب دورا رائدا، كونه يسهل مبادلات التفاعل والتعليقات وإعادة البث للآخرين عبر النصوص والصور والصوت، كما الحال مع الشبكات الاجتماعية. هذه الأخيرة لا تكتفي بعرض المواد مجانا، بل تعمل على الرفع من مداخيل الإعلانات "والتمكن من اقتراح مواد تجارية بعد معرفة أفضل لأذواق ومراكز اهتمام المتصفحين".

بالتالي، فقد "خلخلت قنوات البث الرقمية...القطاعات الثقافية التقليدية وزعزعت منطقها الوظيفي الاعتيادي، وأثرت في طرق توزيع المضامين".

نحن، يقول الكاتب بالمحصلة، بإزاء "إعادة تشكيل عميق للمشهد الثقافي تحت التأثير الرقمي والازدهار المتواصل للمواقع والمنابر".

يمكنكم مشاركة هذا المقال