الإثراء غير المشروع مكون أصيل من مكونات الفساد، دع عنك كونه شكلا من أشكاله الثابتة. هو ظاهرة اجتماعية صرفة، تماما كالفساد، لكنها تتعداه في كونها لا تسائل إلا الجانب القانوني، كما لو أن إعمال القانون كاف لوحده لاستئصاله أو للحد من امتداداته وتداعياته.
يتحدد الإثراء غير المشروع في كونه ذاك "الانتفاخ" الصريح والصارخ، في أملاك موظف عمومي ما، بما لا يتناسب مع مدخوله العادي، والذي لا يستطيع لا تبريره ولا التدليل على مصادره. الشك هنا يطال السر في ذات الانتفاخ، ويطال أيضا مصدر هذا الأخير. قد يتعلق الأمر بالسرقة المباشرة للمال العام، وقد يتعلق بعمليات النصب والاحتيال عليه، أو بآليات الارتشاء وخيانة الأمانة وما سواها.
المقاربة المعتمدة في تحديد الحالات جميعها، هي مقاربة قانونية خالصة، الفعل فيها هو موضوع الشبهة، وليس الاغتناء كنتيجة "طبيعية" لذات الفعل.
نعاقب السرقة باعتبارها مصادرة "غير قانونية" لشيء ما في ملك الآخرين، ثم نعاقب فعل النصب عندما يعمد شخص ما إلى تضليل شخص آخر بنية النصب عليه وتحصيل منفعة من ذلك، ونعاقب من لا يلتزم بالعقود والعهود، عندما نتثبت من أن الفعل الكامن وراء ذلك هو من خيانة الأمانة أو من عدم الوفاء.
ليست الزيادة الكبيرة وغير المبررة للذمة المالية للشخص الملزم بالتصريح الإلزامي للممتلكات، هي المعنية هنا. المعني الأساس هو الفعل والوسيلة، إذ عدم تمكن الموظف العمومي من تبرير ما بذمته هو المعني، وليس ما تحصل عليه.
لذلك، فتحديد القصد هنا هو أمر جوهري وأساس، إذ من شانه تحديد طبيعة الشبهة وكيفية التصدي لها، إما زجرا استباقيا أو متابعة مباشرة، فعقاب. يجب تحديد الشبهة بدقة، قبل الإقدام على سن العقوبة المقابلة لها والمناسبة لحجمها، إذ ما دامت الشبهة غير محددة في طبيعته وطبعها، ولا منصوص عليها في اللوائح والتشريعات، فلا عقاب ولا عقوبة.
القاعدة الناظمة للعملية برمتها هي ألا سبيل لمتابعة شخص ما، أو معاقبته على فعل غير مصنف قانونا، على الأقل من باب ألا عقوبة إلا بنص صريح وواضح، وإلا فسيعمد تلقائيا إلى متابعة من "انتفخت" ثروته "بالحلال"، لكن الشبهات طاردته وجرت عليه المساءلة "بنصوص تقريبية" هي إلى الشطط أقرب منها إلى إعمال العدالة والقانون.
إن التشديد على ضرورة تحديد معنى الإثراء غير المشروع إنما الغرض منه تمييزه عما هو إثراء مشروع، إذ الاغتناء أمر مقبول اقتصاديا واجتماعيا، فيما الذي لا يمكن القبول به اجتماعيا واقتصاديا، فما بالك من زاوية النظر القانونية، إنما أن يتأتى ذلك من مصادر "غير أخلاقية"، غير شرعية وواجبة الإدانة.
لذلك وجب تحديد الفعل المفضي للإثراء غير المشروع بدقة متناهية، سواء أخذ شكل رشوة أو سرقة أو تضليل بنية الاستغلال، ثم دفع الشخص المعني بذات الفعل، إلى إثبات شرعية انتفاخ ثروته فجأة، قياسا إلى مصادر دخله أو إلى ما هو في حوزته من أملاك مادية مباشرة أو عينية.
بيد أن إثبات ذلك لا يمكن أن يتم إلا في ظل احترام المبدأ القانوني العام المتعلق بقرينة البراءة. ومفاده أن على الجهة المشتكية، وعليها وحدها، إثبات ادعائها وإبراز الحجة على ذلك، لا سيما إذا كان الأمر يحيل على مستويات الادعاء العام، الذي هو صاحب الاختصاص في أمر هو من صميم مصلحة المجتمع.
ولذلك، يرى البعض أن مطالبة شخص ما بإثبات شرعية اغتنائه السريع أو المفاجئ، قد يفسر كما لو أنه مسا مباشرا بقرينة البراءة. إذ العملية، حتى وإن تم تأطيرها قانونا، فهي متعذرة إلى حد ما من الناحية الإجرائية الخالصة، وإلا لتاهت المحاكم بين ملفات متشعبة، لها أن تحدد من منها هو موضوع إثراء غير مشروع ويستوجب المتابعة، ومن لا إثباتات عليه، فوجب استثناؤه.
ما يزيد الأمر تعقيدا، وقد يكون مصدر شطط أيضا، أن تتكفل مستويات الادعاء العام بذلك، فيعمد إلى متابعة "الناس" من باب ما يشاع عنها، حتى يتبين له أو يتيقن من العكس، وعند التثبت، تكون سمعة هذا أو ذاك، قد طالها التشكيك و"تلطخت"، حتى وإن تمت تبرئة ذمتها فيما بعد. تحديد معايير إثبات الإثراء غير المشروع أمر أساس هنا، وإلا لسقط المرء في متاهات قد يعرف مبتدأها، لكنه لا يستطيع تحديد مآلاتها.
الأمر غير متعذر في المطلق، لا سيما وأنه يسري على الموظفين السامين المعينين، ويطال من في أعناقهم عهد انتخابية محددة أيضا. العبرة، في الحالتين معا، تكمن في سلك سبل الخيارات الاستباقية، كي لا يصبح تبييض المال العام سلوكا مقبولا ومشروعا.
موقع عروبة، 24 شتنبر 2024
https://ourouba22.com/article/3849-%D8%B3%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AB%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9