اعتدنا منذ زمن بعيد، على أن تقام إقصائيات كأس العالم في كرة القدم، بإحدى البلدان المتقدمة الكبرى. كانت حظوظها لدى الترشيح مرجحة دائما، بمقياس توفرها على البنيات التحتية العامة، من طرق ومطارات وموانئ وفنادق وما سواها، ثم بميزان ما يتوفر لديها ولا يتوفر لغيرها، من بنيات تحتية مرتبطة بالمناسبة نفسها، أي من البنيات الرياضية الواسعة، حيث ستدار المباريات وتلتئم الجماهير بعشرات الآلاف، والجاهزية اللوجيستية التي تضمن الراحة والفرجة لذات الجماهير.
كل ملفات الترشيح كانت تخضع لهذه الاعتبارات، وهي اعتبارات موضوعية بكل المقاييس، إذ لا سبيل للظفر بتنظيم أكبر تظاهرة رياضية عالمية على الإطلاق، إذا لم تتوافر المقومات الأساس وتجتمع شروط النجاح في حدها الأقصى.
ترجيح كفة ملف قطر جاء باستحضار لهذه العناصر مجتمعة، ليس من باب توفرها الآني كما عهدنا الأمر في الدول ذات التقاليد الرياضية العريقة، بل من باب أن لديها من الإمكانات المالية ما يمكنها من إقامة البنى التحتية الضرورية، في ظرف زمن قياسي وبالمواصفات المطلوبة في دفاتر تحملات والتزاماتها مع الفيفا.
قطر من البلدان ذات المساحة الجغرافية الصغيرة، يكاد المرء لا يراها بالعين المجردة على خريطة العالم. وهي، إلى جانب محدودية جغرافيتها، لا تحتكم إلا على ساكنة تعد بالآلاف وليس بالملايين، نسبة كبيرة منهم من العمالة الأجنبية. ثم إنها تقع بمنطقة من العالم يهيمن على طقسها جو الصحراء القاسي، فيحول دون الحل والترحال بالنسبة لمقيميها، فما بالك إن حجت إليها الجماهير بالملايين.
ومع ذلك، فقد تجاوزت الفيفا على هذه المعوقات، وراهنت على قدرة قطر لتنظيم تظاهرة العام 2022، قياسا إلى الإمكانات الهائلة من الموارد التي توفرها لها ثروتها من النفط والغاز. كل شيء هان يوم التصويت، مادامت الموارد مضمونة والعزيمة قائمة وثابتة، والنية على احتضان المنافسات لا تقبل التشكيك كثيرا.
صحيح أن ثمة من اعترض واحتج، بدعوى ما تعاتب عليه قطر في مجالات حقوق الإنسان ودورها السلبي خلال فترة الربيع العربي، لكن ذلك لم يؤثر كثيرا على مآل قرار الفيفا وتصميم أعضائها على حسم التصويت لفائدتها.
لم تتوان قطر، من حينه ولحوالي عشر سنوات، في إقامة المنشآت الرياضية وتجهيزها، من توسيع المطارات وبناء الفنادق والمستشفيات وتعميم سبل الاتصال والتواصل بين نقط المنافسات المختلفة، حتى باتت والبلد مقدم على الافتتاح، ظروف الاستقبال والتباري مهيأة، مؤمنة ومن الطراز العالي، وإن كانت التكلفة باهظة والتضحيات كبيرة.
بيد أن توافد الملايين من البشر، من كل الأجناس والثقافات والأعراق والجنسيات، لم يكن دائما بالسلاسة المطلوبة والمراهن عليها، ولا كان "لصدمة اللقاء الأولى" أن تمر دون "احتكاكات"، على خلفية من تباين القيم وتنافرها في العديد من الحالات.
تجاهل الزوار أنهم بإزاء بلد عربي/إسلامي محافظ، لا تزال الخلفية البدوية المتشبثة بالأصول هي الغالبة، على الرغم من مظاهر الحداثة المتقدمة التي يمكن للمرء أن يعاينها لأول وهلة. تجاهلوا أيضا أن من السلوكات، في الملبس والمأكل والمشرب مثلا، ما لا يتساوق مع قيم لا تزال تنهل من الدين ومن العادات والتقاليد جزءا كبيرا من معتقداتها وتمثلاتها وأنماط عيشها ومخيالها الجمعي العام.
بالمقابل، تجاهل المنظمون أنهم بإزاء جماهير من مشارب عدة ومن مرجعيات مختلفة ومتباينة، ومن تيارات وقيم لا تتماهى دائما مع تقاليد ولا مع قيم المجتمعات التي هم ضيوف عليها. إنهم لا يستطيعون "لجم" سلوكات هي من صميم بلدان رفعت من مقام الفردانية درجات، ولم تعد تضع اعتبارا كبيرا لما قد تكون المعتقدات أو القيم.
ولذلك، لم يرتض الزوار مثلا أن يمنعوا من تناول الخمر في الأماكن العامة، ولم يرتض المنظمون أن يرفع شعار المثليين في الملاعب أو بالطرقات. ومع أن الخمر لم يكن ممنوعا إلا في أماكن حصرية، فإن رفع شعار المثلية كان يراد له أن يعم وينتشر.
صحيح أن الفيفا انتصرت للمثليين، وسمحت لهم بتداول شعارهم، لكنها انتصرت للمنظمين أيضا في عدم السماح بترويج الخمور في الملاعب أو بالساحات العامة. بالحالتين معا، كانت الحكمة ألا يتم حشر الاحتفالات في جو من الشحن والاحتقان و"التدافع القيمي" العقيم.
لا يبدو أن التقصير في هذه النوازل متأت من سلوك هذا الطرف أو ذاك. هو لربما متأت من دفتر تحملات راهن كثيرا على البنيات والأمن العام، ولم يراهن كثيرا على تبعات "صدمة القيم" التي قد تترتب عن تلاقي منظومات قيم وسياق بيئات مختلفة.
لا يبدو أن ثمة وجها للغرابة في ذلك، إذ السبب يعود لكون هذا النوع من التظاهرات الكبرى لم يقم من قبل ببيئات خارج البيئة المسيحية، حيث العبرة بقيم ذات البيئة، وليس بتلك التي يحملها ضيوف البيئات الأخرى، وضمنها حتما البيئة الإسلامية. معنى هذا أن الضيف القادم من بيئة عربية/إسلامية قد لا ينفر من القيم المسيحية وهو ضمن البلدان "المعتنقة" لها، حتى وإن لم يقبل بها أو لم يتماه معها. بيد أنه سينفر منها ولن يقبل بها إن ولجت فضاءه الجغرافي واخترقت تقاليده وتمثلاته.
ومع ذلك، فالمسألة بالمحصلة النهائية مرتبطة بموقف الفيفا لا بغيره من المواقف. هي التي تبث في التنظيم، وهي التي تشترط على المرشح. أما البلد حيث تدار الإقصائيات، فهو بلد مضيف ليس إلا.
نافذة "رأي في الشأن الجاري"
28 نونبر 2022