يعرف المغاربة السوق بالفطرة، أي باعتباره فضاء لتصريف فائض القيمة حسب منطوق العرض والطلب. بيد أنهم لم يتعرفوا على اقتصاد السوق إلا في العهود القريبة، لا سيما في ظل وبعد مرحلة الحماية، حيث ربطت فرنسا اقتصاد المغرب، ورهنته باقتصادها تراكما لرأس المال، ثم إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا وإعادة ترتيب سلاسل القيمة.
وعلى الرغم من تبني المنظومة الليبرالية في مرحلة ما بعد الحماية، فإنها لم تتجذر ولا تم تملكها إلا بقدر محدود. إذ انبنت في أعقابها أوليغارشيات في الفلاحة والصناعة ومن بين دواليب الإدارة، حجمت من أفق انتشارها وأبطلت مفعولها على مستويات التنظيم الاقتصادي والاجتماعي.
اعتمدت الليبرالية في منطوق الخطاب، لكن مبادئها بقيت في جزء كبير منها، معلقة أو مرهونة أو غير ذات بال في تنظيم السوق، وتسهيل سبل إنتاج وإعادة إنتاج فوائض الإنتاج.
ولعل الحلقة الجوهرية التي لم تكن النية قائمة على تفعيلها إنما حلقة المنافسة، باعتبارها صلب السوق، وأداة تكريس المبادئ الأساس لليبرالية. كل القطاعات الكبرى كانت، بالبناء على ذلك، مهيكلة بما لا يضمن انسيابية العرض والطلب، ولا أن تكون حائلا دون أن تتحول المنافسة إلى حروب مواقع، يكون للأقوى ضمنها الكلمة/الفصل في حال السوق ومآله.
لم يكن السوق مجالا "مستقلا" تتدافع الاستراتيجيات الفردية بداخله بحرية، ودون إكراه من لدن أطراف خارجية عليه، طارئة على آليات اشتغاله. ولم يكن ثمة قواعد سياسية وأخلاقية تضبط هذه الآليات، وتحول دون بروز سلوكات قد تضر به، من قبيل التركيز أو التحالف من الباطن أو الاحتكار.
بالتالي، فإن "الليبرالية" المعمول بها، لم يكن لها أن تتماهى مع وضعيات في السوق تكرس السلوكيات إياها، بل عمدت إلى إعمال قواعد خارجة عن السوق، بدعوى أنها ضرورية لضبطه والعودة به إلى "نقاوته" الأصل. فبررت ذات السلوكيات ولم تحاربها.
من الثابت أن المنافسة في اقتصاد السوق لا تكون دائما حرة وشفافة، إذ غالبا ما يلجأ الفاعلون إلى ترتيبات تفسدها وتبطلها وتحد من مداها في الزمن والمكان. لكنها لا تصل لدرجة أن تصبح الدولة مثلا (أو السلطة) فاعلا بالسوق، مؤثرا فيه.
ومع ذلك، فإن الفاعلين، المؤتمنين جدلا على المنافسة، هم الذين غالبا ما يطالبون بتدخل الدولة، لكن ليس بصورة فعلية مباشرة، بل عن طريق خلق وكالات للتقنين والتنظيم، بغرض "تصحيح" التجاوزات أو معاقبة الفاعلين، أو للحيلولة دون سيادة سلوكيات احتكار سرعان ما تتحول إلى وضعيات هيمنة وشطط احتكاريين.
وعلى هذا الأساس، فإن خلق مجالس للمنافسة هنا وهناك، إنما كان الغرض منه ليس فقط تثبيت قواعد التدافع "الطبيعي" من بين ظهراني السوق، بل أيضا ضمان احترام كل فاعل به، لقواعد ترعاها الدولة أو تقوم عليها أو تسهر على عدم تجاوزها.
ما يبدو استقلالية للفاعل الاقتصادي هنا، ليس قائما بكل الحالات، بل هو خاضع للتقنين والتنظيم والتأطير. والآية من ذلك، من منطوق الليبرالية واقتصاد السوق، هو ألا يتحول التهافت على المصلحة الخاصة إلى إضرار بمصالح الأفراد والجماعات. إنها تعمل كي لا يتحول اقتصاد السوق إلى مجتمع في السوق، ثم إلى ديموقراطية في السوق، فترتهن مستويات الأخلاق والسياسة ومنظومات القيم، وتصبح مجرد مكون من مكونات السوق.
صحيح أن لليبرالية أبعادا أخرى غير السوق واقتصاد السوق، إلا أن تطلعها لاختزال كل باقي أشكال التعابير الأخرى لا يضر بهذه الأخيرة فحسب، بل بالليبرالية أيضا.
هذا بالمنظور العام. بيد أن خلق هذه المستويات بالمغرب، لم يكن بالنجاعة التي تفترضها الليبرالية، أو يشترطها السوق ويرضاها اقتصاد السوق. لقد اتضح أن منطق "ارتهان المقنن" هو الذي غالبا ما تكون له الغلبة.
لا تكتفي الدولة هنا بدورها كحكم بين الفاعلين في السوق، بل تصبح خصما شرسا لا يعير كبير اعتبار لهذا المجلس أو ذاك، لهذه التوصية أو تلك. تتحول السلطة جراء ذلك، إلى فاعل مباشر بالسوق، له شبكة ارتباطات وتحالفات ظاهرة وباطنة، ضدا على السوق وضدا على الليبرالية نفسها.
نافذة "رأي في الشأن الجاري"
31 أكتوبر 2022