يشاع إنه كلما اتسع مجال السوق وتحدد، كلما تقدم مد الليبيرالية وتكرس. هذا صحيح إلى حد فقط. إذ السوق سابق على الليبرالية، بدليل أن البشرية عرفت الأول وتعاملت في إطاره، إنتاجا وتبادلا للسلع، قبلما تحدد الليبرالية مبدأ الحرية وتجعل منه أساس السوق، كنمط من أنماط التنظيم الاقتصادي والاجتماعي.
الليبرالية هي التي تطالب بالمزيد من السوق، من المنافسة ومن الحرية للأفراد، باعتبارهم المحرك الأساس للمنظومة العامة في شكلها وفي جوهرها.
والأصل في المنظومة أن السوق، "مسنودا" بمنظور الليبرالية، إنما من شأنه إفراز منطق اقتصاد السوق، حيث المنافسة الكاملة هي الحالة القمينة باستنبات نظام عرض وطلب، ثم نظام أسعار كفيل ببلوغ وضعية التوازن الاقتصادي العام.
في العام 1954، قال عالم الاقتصاد الفرنسي موريس ألي: "إن حالة توازن اقتصاد السوق هي حالة نجاعة قصوى، والعكس بالعكس، إذ كل حالة نجاعة قصوى هي حالة توازن اقتصاد السوق".
بيد أن السوق (ومن بين ظهرانيه اقتصاد السوق) لا يمكنه أن يقوم أو يستقيم إذا لم تكن الثقة هي مرتكزه ومقومه وضامن نسقيته. وهذا يعني أنه لا بد من قواعد، وإن في حدها الأدنى، تقوم عليها الدولة حتى وإن حدت من دور هذه الأخيرة ومن مجال فعلها، أو لجمت دور ومجال الأفراد أو المجموعات التي تدور في فلك السلطة، أو لها معها روابط ومصالح و"علاقات قرب أو قربى". هذه هي الصيرورة كما تجلت في بعدها العام.
بيد أن الليبرالية في المغرب، لم تقم حقا حتى يكون بمقدورها إسناد السوق وإفراز منظومة في اقتصاد السوق. إنها ليبرالية "الواجهة"، فيما القائم في الأصل هو "اقتصاد" مبني على الريع والمحاباة والفساد والرشوة وغياب المحاسبة.
من الثابت أن السلطة (والسياسة بوجه عام) كان لها مجال الفعل الأكبر. هي التي، منذ البدايات الأولى للاستقلال، توجه السوق عن بعد، تداري على الاحتكارات، العامة والخاصة على حد سواء، ولا تجد غضاضة في حماية شريحة من الفاعلين لهم معها شبكة علاقات هي إلى التواطؤات أقرب منها إلى الفعل في ظل "قوانين" السوق وآلياته.
وعلى الرغم من تحرير بعض القطاعات الكبرى "من ربقة" الاحتكار، فإن الأمر لا يبدو في جوهره تحريرا، بل مجرد انتقال للملكية من العام للخاص، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير لا على السوق ولا على المنافسة، ولا على الدينامية الاقتصادية برمتها.
ومع أن الدولة عمدت إلى خلق وكالات ومجالس عليا لتقنين وتنظيم القطاعات إياها، فإن ذلك لم يفرز وضعا تنافسيا جديدا، بل تحايلا على السوق يبدو كما لو أنه تلغيما له من الباطن.
ولعل "رأي" مجلس المنافسة الأخير عن قطاع المحروقات يبين ذلك ويستجليه. إذ لم يعمد المجلس إلى إعمال صلاحياته التنازعية لردع الفاعلين الكبار، بل دفع بطابعه الاستشاري بدعوى غياب النصوص التطبيقية، بغرض النأي بنفسه عن ملف تتشابك من بين ظهرانيه مصالح الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين، بالداخل وبالخارج على حد سواء. لم يكن لإصدار هذه النصوص أن يتأخر أصلا ولأكثر من سبع سنوات من الزمن، لو لم تكن النية قائمة على ترك القطاع خارج إطار "المقنن"، بضغط من هنا أو تلكؤ من هناك.
هل ما يجري اليوم بقطاع المحروقات وبباقي القطاعات الكبرى، مرده السوق أم مرده سلوك فاعلين لم يتشبعوا بعد بمبادئ الليبرالية وآليات التدافع الحر ؟...يبدو أن مرده الأصل هو أننا نشتغل في ظل سوق لا يحتكم لمرجعية ليبرالية في فعله وتفاعله...أقصد لا يتخذ من الليبرالية مقوما وحاملا وحكما، وإلا فأي معنى لسوق لا تقوده التعددية والتنافسية والاحتكام لآليات التباري دون ضغط من هنا أو ابتزاز من هناك؟
نافذة "رأي في الشأن الجاري"
24 أكتوبر 2022