تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"مقام العقل عند العرب"

قدري حافظ طوقان، دار القدس للطباعة والنشر، بيروت، 2004، 239 ص.

1- عن مفهوم العقل، يقول الكاتب: "عقل الشيء، فهمه وتدبره. وعقل فلان، عرف الخطأ الذي كان عليه، والعاقل هو المدرك الفاهم، الحكيم والعقول هو الفاهم للأمور".

يقول الرازي: "...إنه الشيء الذي لولاه كانت حالتنا حالة البهائم والأطفال والمجانين".

ويقول ابن سينا: "إن الله عقل...ولما كان الله عقلا، فالذي يصدر عنه عقل". وثمة من العلماء العرب من جعل العقل "هو الطريق الموصل إلى الملكوت الأعلى".

ويقول الفارابي بعدم تعارض الدين والفلسفة: "ذلك لأنهما تتفرعان من أصل واحد، يحوي المعرفة والحق والحياة...وهو العقل الفعال".

وقد بلغ إيمان بن طفيل بالعقل لدرجة قال فيها: "إن العقل يستطيع بالاستقراء والتأمل أن يدرك الحقائق العليا إدراكا تاما. وإن هذا العقل لا يحتاج إلى الشريعة في تثقيفه وتوجيهه".

وقد ذهب ابن رشد في ولعه بالعقل لدرجة "دعا إلى تأويل الإجماع إذا كان الإجماع يخالف العقل".

وكذلك كان الحال مع العديد من الفلاسفة العرب، الذين "انشأوا مذهبا جديدا عرف بالمذهب العربي أو الطريقة العربية، التي تقوم على جعل العقل المرجح والدليل".

2- ينقسم الكتاب إلى خمسة أبواب كبرى، خصصها الكاتب للبحث في قيمة ومقام العقل عند العلماء العرب:

+ بالباب الأول ("العقل في الإسلام") يعترف الكاتب بأن الله تعالى قد شرف العقل وأعلى مكانته، كما أن الرسول (ص) عظمه وقدس حرمته، كما مجده الفلاسفة والحكماء والعلماء.

وقد حمل القرآن على المقلدين، المعطلين لعقولهم بالقول: "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"، ثم "كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون"، والعشرات من الآيات الأخريات التي تعرضت لقيمة العقل، الذي يهبه الله للصالحين من عباده.

كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان "ينظر إلى العقل نظرة كلها تعظيم وإجلال. وأقر بأن لا دين لمن لا عقل له، أي أنه ما تم دين أحد إلا بالعقل". وقال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الناس أعقل الناس".

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "قلت يا رسول الله، بم يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال بالعقل. وفي الآخرة، قال بالعقل. قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم، فقال رسول الله: يا عائشة، وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله عز وجل من العقل. فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون".

وقال عليه الصلاة والسلام: "العقل نور في القلب، يفرق بين الحق والباطل". وقال أيضا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر".

أما علماء الكلام، فكانوا ينظرون إلى العقل نظرة إكبار وإجلال، ذلك لأنه "محل الإيمان والمعتمد في تقرير أدلة الإيمان، الدال على مواضع الشبه".

ويلاحظ الكاتب أنه لم يكن ثمة تكفير في صدر الإسلام، لأن البرهان والعقل كان هو المرجح، وكان الفقهاء "يرون في مخالفة أمر من الأمور دليلا على اختلاف العقول وتباين مواقع النظر لا أكثر". وأنه لا يجوز أن يبنى على هذا الاختلاف أو التباين، تكفير أو مروق أو زندقة".

ويقول الفقهاء بأن العقل صالح لإدراك ما يأتي به الشرع من الحسن والخير، "ولكنهم لا يذهبون مذهب المعتزلة، الذين يقولون إن العقل يدرك علل التشريع، ويدرك الحسن والخير قبل ورود الرسالة". ويروا أيضا أن التقليد الأعمى باطل في الشريعة، وفي هذا إعزاز للعقل ورفع لشأنه.

وقال علي، كرم الله وجهه: "كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم، فإنه يتسع..."، ووعاء العلم هو العقل.

+ بالباب الثاني ("الاجتهاد في الإسلام") يؤكد المؤلف على أن القرآن والأحاديث قد حثت على الاجتهاد، ولا سيما في المسائل الشرعية، إذ الإسلام بنظره، يجمع بين الدين والشريعة.

والاجتهاد، ببناء الكاتب على مصادر موثقة، "هو بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي مما اعتبره الشرع دليلا، وهو الكتاب والسنة. وهو عكس التقليد، أي اتباع رأي الغير دون فهم أو تدقيق".

ويحيل المؤلف على ما قاله رسول الله لابن مسعود: "إقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما. فإن لم تجد الحكم فيهما، اجتهد رأيك"، ليؤكد على مركزية الاجتهاد، والدعوة لحرية العقل وحرية الرأي وتدعيم لهما، والتوكيد بالتالي على وجود استخراج واستنباط المجهول من المعلوم، وهذا هو القياس العقلي.

كما يعاود المؤلف التوكيد "على أن كل ما خالف ظاهر الشرع وأدى إليه البرهان وكان إطار العقل، فعلى الفقهاء والمفكرين أن يلجأوا إلى ما يقول به العقل، وذلك بأن يجعلوا ظاهر الشرع يقبل التأويل، بحيث لا يكون هناك تناقض أو خلاف بين الشرع والعقل".

وقد وضع الفقهاء شروطا للمجتهد لأداء ما يسعى إليه من استنباط واستدلال، فاشترطوا فيه أن يكون "راشدا عاقلا، عادلا متصفا بالأخلاق الحسنة، وأن يكون عالما بمدارك الأحكام، أي عارفا بالأدلة الشرعية وطرق اتباعها، وما إلى ذلك من معرفة اللغة، والتفسير، وأسباب نزول القرآن، ومعرفة حال الرواة، وطرق الجرح والتعديل والناسخ والمنسوخ...". وأن يكون ضابطا لمقاصد الشريعة على كمالها.

وهكذا، فقد دفعت الحاجة ومصلحة الناس الفقهاء للاجتهاد، فاختلفوا فيه، فظهرت المذاهب الأربعة المشهورة وفرق دينية مختلفة، فتشعبت الآراء وتعددت وجهات النظر...وهو ما يدلل على حيوية العقل عند العرب والمسلمين، وأيضا على ضرورة عدم إغلاق باب الاجتهاد وفق حاجات الناس ومصالحها.

ويستشهد الكاتب بفقهاء كبار كالأفغاني ومحمد عبده وعبد العزيز جاويش وغيرهم، والذين دافعوا بقوة عن الحق في الاجتهاد، وبأنه ليس ثمة مسوغ إطلاقا للحجر عليه، حتى وإن كان لا يساير الآراء السائدة.

+ بالباب الثالث ("سلطان العقل عند المعتزلة") يعتبر الكاتب أن المعتزلة كانوا "دعاة عقيدة وقادة الحرية في الرأي، ومن أعظم المصلحين الدينيين الذين ظهروا في القرن الثاني للهجرة". قالوا بسلطان العقل واعتبروه المرجع والأساس، ولم يأخذوا بالنقل إلا عندما يساير العقل والبرهان العقلي. لهذا السبب كانوا يرفضون رواة الحديث، ولا يأخذون إلا ما توافق مع العقل.

وقالوا بأن "الحسن حسن لا لأن الشرع أمر به، بل لأنه حسن في ذاته، وكذلك القبيح قبيح لا لأن الشرع نهى عنه، بل لأنه قبيح بذاته".

من هنا، فقد نفوا القدر، فنفوا بالتالي الظلم عن الله تعالى، ودافعوا عن العدالة الإلهية، ورفعوا من قيمة الإنسان، فجعلوه "مخلوقا عاقلا، مفكرا، مدبرا، جديرا بتحمل المسؤولية". بالمقابل فارتكازهم على العقل جعلهم يتعاملون مع ما ورد عن الصحابة والرواة بتحفظ، وساعدهم في محاربة الخرافة والأوهام، والحسم في أن الإنسان مطالب بالتمييز بين الخير والشر والاتسام بالصدق والعدل، والإعراض عن الكذب حتى وإن لم يصله الشرع، "لأن العقل يستطيع أن يدرك حسنها وقبحها لما فيها من صفات حسنة أو قبيحة...".

+ بالباب الرابع ("مقام العقل عند بعض الفلاسفة والعلماء") وقف الكاتب عند أحد عشر فيلسوفا وعالما كان لهم دور كبير في تطوير المعرفة الإنسانية، سنقف هنا عند بعضهم:

°°- الكندي. وهو إمام مذهب فلسفي إسلامي في بغداد، أثرت الفلسفة على اتجاهات تفكيره، فكان ينهج منهجا فلسفيا "يقوم على العناية بسلامة المعنى من الوجهة المنطقية، واستقامته في نظر العقل".

وهو يرى الإنسان العاقل مهما بلغ في العلم، فهو لا يزال مقصرا وعليه أن يبقى "عاملا على مواصلة البحث والتمحيص".

°°- الرازي. ويعتبر "العقل أعظم نعم الله وأنفع الأشياء وأجداها علينا". ويؤكد أن الإنسان بالعقل "توصل إلى معرفة الله". وقد اعتمد الرازي العقل في معظم بحوثه، سيما تلك المتعلقة بالكيمياء، وقد اعترف له الغرب بذلك فيما بعد".

°°- الفارابي. وقد اشتهر بتفسيره لكتب أرسطو ولا سيما تلك المتعلقة بالمنطق. ويحدد الفارابي المنطق في كونه "العلم الذي تعلم به الطرق التي توصلنا إلى تصور الأشياء، وإلى تصديق تصورها على حقيقتها...وكل ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات".

ويرى الفارابي أن "الدين والفلسفة لا يتناقضان، وليس بينهما من اختلافات جوهرية، ذلك لأنهما يتفرعان من أصل واحد يحوي المعرفة والحق والحياة، وهو العقل الفعال...الذي هو فعال دائما والمتحقق تحققا تاما وهو الله. وهذا العقل الفعال هو المنهل الذي نهل منه الفلاسفة والأنبياء. وإذا كان المصدر واحدا، فالفلسفة واحدة والدين واحد".

بالتالي، فهو يطالب بتعانق الفلسفة والدين، وإذا ما كان تعارض بينهما، "فهو في الظواهر لا في البواطن".

وبنظر الفارابي، فإن "الفيلسوف الذي يقف عند العلوم النظرية ولا يتعداها إلى الجانب العملي، هو فيلسوف زور وباطل لا صلة بينه وبين الحياة. فالحياة علم وعمل، ولا بد للفيلسوف من أن يمتاز في عمله كما في علمه".

°°- ابن سينا. وقد تفتح عقله على المناقشات الفلسفية والبحوث الدينية في النفس والعقل وأسرار الربوبية والنبوة. وقد برع في الطب بالخصوص (عبر قراءاته للكتب المصنفة)، وأضحى طبيب الأمراء، الذين عاشرهم واستوزر مع بعضهم، وبات رجل دولة. لكن ذلك لم يثنه عن الدرس والبحث.

وقد كان ابن سينا من مقدسي العقل، ويرى "فيه أعلى قوى النفس". وقد ذهب لحد تغليب سلطان العقل على سلطان الروح، "حتى إنه يرى في العقل سبيلا إلى الوصول إلى الملكوت". كما جعل للتجربة مكانا عظيما في دراساته وتحرياته، وناهض التنجيم، وآمن بأن "الظواهر الطبيعية إنما تحدث حسب القوانين الطبيعية التي وضعها الصانع الحكيم، وقيد الوجود بها".

ويقر بأن "مقدار رقي الإنسان يتناسب تناسبا طرديا مع مقدار غلبة عقله على شهواته".

°°- أبي العلاء المعري. وقد جعل من العقل "إماما ونبيا، يصدع لقراراته ويتقيد بأحكامه". وقد دعا إلى تحكيم العقل في كل شيء "وإبداء الطاعة له". بل ويعتبر أن الخير لا يمكن أن يكون خيرا إلا إذا احتكم للعقل، فسيستنكر التقليد ويرى فيه خروجا عن العقل. كما طالب بتحكيم العقل، وتسخيره: "فيه ينكشف النهج القويم وتتجلى الحقائق".

°°- الغزالي. وهو الذي استطاع تقريب الدين من عقل العامة دون غموض أو معميات. وقد درس الغزالي الفلسفة ليخرج من مسائل شكية راودته. وخلص إلى أن العقل ليس مستقلا، ولا بقادر على كشف الغطاء عن كل المعضلات. بل لا بد من الرجوع للقلب "الذي يستطيع أن يدرك الحقائق الإلهية بالذوق والكشف". وهو بذلك "حاول أن يخضع العلم والعقل للوحي والدين، لكي يصل إلى الحقيقة العليا".

وعكس المعتزلة، قال الغزالي بالجمالية والقبح قياسا إلى العقل والشرع لا العقل وحده. فقاس بالتالي الخير والشر بمقياس العقل والشرع. وقد عارض الغزالي القول بأن الدين انقياد أعمى، أو حقائقه أقل من الفلسفة، بل اعتبر "الدين ذوقا باطنيا لا مجرد أحكام شرعية أو عقائد، بل هو شيء أكثر من ذلك، وأنه شيء تتذوقه الروح".

كما أشاد الغزالي بالشك واعتبره موجبا للحق، "فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر، ومن لم يبصر، بقي في العمى والضلال".

°°- ابن رشد. وهو مؤسس الفكر الحر، الجريء والمنطقي. وقد كان حادا في نقده لابن سينا والغزالي، وكان أبعدهما عن التصوف، وأقربهم للعقل. ثم هو كان يرتكز على العقل ولا يعتمد على الروايات الدينية. كما دعا إلى قبول الآراء الصحيحة، سواء تأتت من مسلم أم من غير مسلم. وقد دعا بقوة إلى ضرورة إعادة الاعتبار للفلسفة، والتوفيق بينها وبين الشريعة.

ويرى ابن رشد "أن كل ما أدى إليه البرهان والعقل وخالفه ظاهر الشرع، فإن ذلك الظاهر، يقبل التأويل على قانون التأويل العربي".

وإذا كانت الشريعة حقا داعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإننا نعلم "أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، إذ إن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له". وإذا ظهر "تناقض بين النظر البرهاني والشرع، فإن التأويل (باتباع أصوله) سيؤدي إلى ما يقول به العقل والبرهان"، بل إنه ذهب لدرجة الدعوة إلى التأويل حتى وإن كان ثمة إجماع.

°°- ابن خلدون. وهو مفكر متزن، حارب الكيمياء والتنجيم بالأدلة العقلية، وأكد أن الأولى تتغيأ البحث في الذهب، والثانية تحاول إثبات أثر ما للكواكب على أحوال الناس وطبائعهم.

ويرى ابن خلدون "أن حوادث التاريخ مقيدة بقوانين طبيعية ثابتة، وأن ظاهر التاريخ هو إخبار عن الدول، أما باطنه فهو نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها، وكذلك هو علم بكيفيات الوقائع وأسبابها".

وتعتبر مقدمته تأسيسا لعلم الاجتماع الإنساني، 460 سنة قبل أوغست كانت. كما كان من المناهضين الكبار (وهو المؤمن الحق) لما يسمى الطب النبوي، على اعتبار أن النبي بعث ليعلم الناس الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب أو غيره.

ويعتبر ابن خلدون أن العقل نعمة من عند الله، ميزه بها على باقي المخلوقات، به يستطيع أن يستنبط سنة الله في خلقه. وابن خلدون يعتبر بأن العقل ميزان صحيح، أحكامه يقينية لا كذب فيها. لكنه لا يستطيع أن يرى "أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية... فإن ذلك طمع في محال".

+ بالباب الخامس ("النزعة العلمية في التراث العربي") يوضح المؤلف، كيف كان البحاثة العرب أصحاب مشاريع، وكيف صاغوا بحوثهم بلغة سلسة، خالية من الغموض، موضحة للموقف، غير مجاملة، متوخية للدقة والحقيقة العلمية، لدرجة وضعوا الأحاديث النبوية مثلا محط فحص وتدقيق كونها أصلا من أصول التشريع.

وقد أفادوا بذلك الغرب بالتأكيد، لكنهم أفادوا أيضا الأجيال اللاحقة التي تعلمت أصول البحث وطرق توخي الحقيقة...هذا ناهيك عما تركوه من إرث حقيقي فيما يتعلق بحرية الفكر والتسامح الديني وما سواهما.

ويلمح الكاتب بهذه النقطة، على مدى حاجة العرب بالوقت الراهن، "إلى الروح التي تجلت في التراث العربي/الإسلامي"، ومجدت العقل ودعت إلى التجديد وتقديس الحرية، ودعت للتخلص من التقليد والتبعية.

ويخلص للقول بأنه "لن يقدر للعرب أن يتقدموا إلا إذا آمنوا بحرية الفكر وطبقوها، وجعلوا للعقل مجالا واسعا في أحكام الفقه".

نافذة "قرأت لكم"، 5 يوليوز 2007

يمكنكم مشاركة هذا المقال