سعيد بنسعيد العلوي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1987، 122 ص.
هذا الكتاب هو مجموعة متنوعة من المقالات جمعها الكاتب من باب توثيق مواقفه من قضايا النهضة والحداثة والتنوير في الفكر العربي المعاصر، أي عن الكيفية التي تفاعل هذا الفكر معها، باعتبارها قضايا جوهرية لطالما طرحت للتداول، معالجة أو إطارا للنقاش أو استشرافا لما يجب أن يكون عليه هذا الفكر بخصوص القضايا إياها. إنها بنظر الكاتب، أفق للتفكير، طالما لا تزال مطروحة للتدافع، ولم يتم التوافق بشأنها.
أول تيار في هذا الفكر تعرض له المؤلف هو التيار الإصلاحي السلفي، أو السلفية الإصلاحية كما يسميها. وهو التيار الذي ظهر ببلدان المشرق العربي تحت يافطة "اليقظة العربية"، ومؤداه أن سبب التخلف والانحطاط ليس مرده للإسلام كعقيدة، بل لابتعاد المسلمين عن تعاليم هذا الدين.
ومن أسبابه أيضا الاستبداد السياسي المتمثل في جور الحكام، قبل أن يتحول الإشكال إلى ضرورة إعمال مبادئ العقل والاجتهاد، المفضية صوبا نحو اليقظة والتحرر.
ويلاحظ الكاتب أن هذا الفكر انتشر وذاع، فبلغ مغرب الوطن العربي، لا سيما بالمغرب حيث "تَبَلور وعي سلفي، ظهرت إرهاصاته الأولية في مطالع القرن العشرين، مهدت له الظروف العصيبة التي كان يعيشها المغرب في السنوات السابقة للاستعمار (تهديد خارجي، فتن وثورات داخلية… الخ)، قبل أن يبلغ مراحل نضجه مع الحركة الوطنية وخصوصا مع رائدها علال الفاسي". بيد أنه يرى أن "موقف التيار السلفي من دعوة التحديث والاجتهاد، كانت ذات نطاق ضيق" في عمومه، إذ على الرغم من تأثيرها الكبير في بنى المجتمع المادية، من تجارة وصناعة وغيرهما، فإنها لم تمتد لتشمل الحداثة الفكرية بمفهومها الواسع.
بالمقابل، يعرض الكاتب للدعوة "النقيضة" والتي تدعو إلى إعمال أولوية العامل الفكري والأيديولوجي كمدخل للتقدم والنهوض، إذ "الثورات التي عرفتها الأمم المتمدنة، وإن كانت في سطحها ذات طابع مادي (سياسي، اقتصادي… الخ)، فإن وراءها تحولا طرأ في الذهنية العامة وطرق التفكير".
ولذلك، فهو يستشهد بعبد الله العروي الذي يرى أن التأخر ليس ماديا بالأساس، بل هو فكري "يعبر عنه تخلف الذهنيات وأنماط التفكير وجمودها" والذي يعد طغيان الفكر اللاتاريخي من أقوى تجلياته.
ولذلك، فهو يرى أن الحل إنما "يكمن في تحديث العقل العربي، والتشبع بالفكر التاريخي والنقدي، وذلك عبر الانتقال من الذهنية الاستهلاكية إلى الذهنية الإنتاجية، من التفكير الخرافي إلى التفكير العلمي والعقلاني".
الكاتب هنا إنما يتبنى طرح العروي، عندما يزكي الماركسية النقدية التي وإن انتقدت البورجوازية كطبقة مستغلة، فإنها لم تنتقد كثيرا الثقافة البورجوازية التي حملت معها قيم ومكتسبات الحداثة الفكرية والإيديولوجية. وهو ما لم يعتمده المثقف العربي الذي ناهض الليبرالية ولم يأخذ بها لا كأدوات مادية ولا كمكتسبات فكرية وقيمية.
بيد أن الكاتب يؤاخذ على العروي أيضا، تحليله للواقع العربي انطلاقا من مرجعية غربية لا تتساوق دائما مع ذات الواقع، بسبب وثوقيتها واعتبارها مكمن الحقيقة.
ويقف الكاتب من جهة أخرى، عند محمد عابد الجابري باعتباره رائدا آخر من رواد الفكر العربي المعاصر. الكاتب يقر للجابري تماما كالعروي، احتكامه للعقل العربي وضرورة تحديثه ليكون مفتاحا للتقدم، إلا أنه يقف عكس العروي، عند التراث العربي الإسلامي الذي يرى ضرورة في تنظيم العلاقة معه ونقلها من اللاوعي إلى الوعي.
يرى الجابري، حسب المؤلف، "أن العقل العربي ما زال مشدودا إلى آليات التفكير التقليدية التي تبحث لكل فرع عن أصل سابق له، وبالتالي فهو عقل فقهي لا علمي، غير قادر على التفكير من خارج مرجعية النص المقيدة ومبدأ القياس"، وهو الحكم الذي ينسحب أيضا على المثقف الحداثي لا السلفي فحسب.
إن الجابري إنما يميز من بين ظهراني التراث العربي الإسلامي بين المعقول الديني، أي المعاني السامية التي ينطوي عليها الكتاب والسنة كالتوحيد، التراث العلمي والفلسفي الذي وفد إلى الثقافة العربية من اليونان، وبين اللامعقول في التراث، أي المذاهب الهرمسية والغنوصية المستندة إلى السحر والكهانة، وما مارسته من تأثير خاصة في الفكر الشيعي، وحتى في أوساط بعض الفلاسفة المسلمين وأهل السنة. هذا التمييز أساسي بنظر الجابري، لأنه هو الكفيل باستيعاب التراث وتجاوزه، من خلال توظيف الجوانب العقلانية التي تخدم المشروع النهضوي العربي.
بيد أن المؤلف يرى أيضا أن الجابري لم ينجح هو الآخر في التخلص من التصادم بين الدافع الإيديولوجي والدافع المعرفي، أي بين الموقف الإيديولوجي المشتغل في بيئة محددة، وبين الموقف الشمولي الذي يتغيأ الكونية في نظرته. وهذا بنظره، قصور في الطرح، يطال بوجه من الوجوه، المضمون أيضا.