Aller au contenu principal

"السنة والإصلاح"

"السنة والإصلاح"

عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء،2008، 221 ص.

يتحدث عبد الله العروي في هذا الكتاب، عن الطريقة السليمة التي يفهم ويقرأ بها القرآن، ونمط العلاقة التي من المفروض أن يقيمها المسلم مع تراثه الديني، لا سيما لو تسنى لهذا المسلم أن يعيش في ظل شريعة أخرى، أو حصل على تعليم علماني ببلد غريب عن بيئته الأصل.

يقرأ العروي النص القرآني من خلال البنية التاريخية لنشأته. ولما كانت بنية متموجة بنظره، فإنها تفضي دائما إلى بروز معطيات جديدة تجعل قراءتنا لها نسبية ومنفتحة على المستقبل: "يكفي أن يتم كشف أثر واحد يفيد العكس، لتنقلب كل تأويلاتنا وافتراضاتنا رأسا على عقب...يجب علينا إذن أن نحترس وقبل أن نقدم على أي حكم أن نقول، ولو ضمنيا، إن بقيت معلوماتنا على حالها".

 ويشدد الكاتب، بالبناء على ذلك، على أن هذه القراءة لا يجب أن تقف عند مدلول الكلمات أو المفردات، بل أن تستند على علوم مختلفة وتخصصات متعددة. ثم هي قراءة عليها أن تأخذ مسافة معينة من القراءات والتأويلات الرائجة، لا سيما التراثية منها، التي تنشد الإطلاقية والكمال، إذ لا وجود لتأويل نهائي برأيه.

ثم إنه يحذر من القراءات الأصولية التي غالبا ما لا تستحضر التاريخ، بل تخشى حفرياته، خصوصا وأنه يشدد على ضرورة استحضار "العالم التاريخي الذي ظهر فيه النص القرآني، باعتباره مفتاحا أساسيا لفهم وقراءة النص".

القراءة التاريخية أساسية في نظر الكاتب، لأنه "إذا كان وضع العرب لا يزال غامضا، فظاهرة القرآن أكثر غموضا". إذ يرى أنه من الأجدر أن نفهم بالتدقيق بيئة العرب بكل تفاصيلها: "من أين جاءوا؟ ما موطنهم الأصلي؟ ما سر إعرابهم، بلاغتهم؟ لغتهم المبينة المتينة كالمنسوخة عن مكتوب، حتى قبل أن تكتب؟ شعرهم؟ حرفهم؟ أخلاقهم؟ لا شيء من هذا مفهوم بالقدر الكافي".

يقول العروي: "في هذا الإطار، بالنسبة للتوجه التاريخي العام، يبدو لنا، ضرورة الاستتباع أن الإسلام ليس سوى قراءة يقوم بها شعب بعينه، وذلك قبل أن تدون تلك القراءة الخاصة المتميزة في نص مضبوط".

بالتالي، فإن القرآن إنما "هو تأويل وقراءة قام بها شعب النبي، للمناخ والوسط التاريخي الهلستيني الذي عاش فيه، وتم تداول هذه القراءة والمواقف شفهيا، وانتقلت لتدون وتصير قرآنا. وبالتالي، يصير هذا الأخير قراءة لما تراكم وتوفر، وما كان في متناول شعب النبي من سياسة وثقافة وأخلاق وتصور عن الكون والإنسان والتاريخ".

يذهب الكاتب إلى القول بأن للعرب تاريخ قبل الإسلام، ولكي نفهم ما وقع عند مجيء هذا الأخير، فإننا نحتاج إلى مقدمات من قبيل "سرعة الانتشار، الحذق السياسي عند الزعماء، الخبرة العسكرية عند القادة، نباهة المتكلمين القدامى، توأمة مكة وبيت المقدس، انتقال مركز القرار من المدينة إلى دمشق...الخ. وهي مقدمات لا بد منها لمن يريد أن يقرأ أو يؤول النص، لا بل إن الكاتب يزعم أن من يتمكن "من هذه الأمور، يستطيع أن يقبل على قراءة النص بنفسه دون واسطة".

الكاتب هنا إنما يلتف على "شيوخ النص"، الذين "يتربعون على منابر الشرح والتوسط بين المسلم وفهم النص"، لا بل والذين كانوا سببا في "موت النص وسجنه في التاريخ الماضي، في حين يواجه مسلم اليوم أحداثا وأسئلة حرجة، تتطلب منه تفسيرا واتخاذ موقف على ضوء مرجعيته الدينية؟". الغرض هنا هو الرد على السؤال الذي يطرحه المسلم اليوم: "ما هي الطريقة السليمة لقراءة النص القرآني، وفهمه وتأويله في ضوء عصرنا؟".

يقول العروي: "قبل أن نناقش، علينا أن نفهم، ولكي نفهم علينا أن نقرأ ولا نكتفي بالتلاوة. نقرأ النص الموجود اليوم بين أيدينا، نقرأه بلا واسطة، بلا فكرة مسبقة، بلا عقدة خفية. نقرأه في الأصل إن أمكن، أو في ترجمات مختلفة تصحح الواحدة بالأخرى".

إنه ينطلق من حقيقة أن هناك جهات وأشخاص بعينهم، سطوا على فهم القرآن وتأويله، مستغلين في ذلك جهل وأمية الناس وعدم درايتهم بالقراءة والكتابة. لذلك، فهو يدعو إلى أن يأخذ كل مسلم الكتاب بيده وبنفسه، وأن يتحرر في فهمه من كل واسطة، لكن شريطة أن يكون ملما بسياق النص وتاريخه.

 النص بالتالي، هو مقدمة تستوعب التراث الماضي، وتعد هفواته وخلاصة تضيء الحاضر وتفتحنا على المستقبل. يجب بالتالي، يقول الكاتب، أن تكون لنا الجرأة لتأويل القرآن والسنة بأنفسنا دون الاعتماد على من سبقنا، إذ لربما قد نكتشف أمورا لم ينتبه لها هؤلاء.

يقول العروي: إن "القرآن كمصحف يتصفح، كمجموع حروف وكلمات وعبارات، وثيقة مادية كباقي الوثائق، لا اعتراض على إخضاعها لجميع أنواع النقد المعاصر...ولا مانع كذلك من أن نخضع للنقد نفسه، كل ما تولد عن القرآن في التاريخ، أعمالا وأقوالا وأحكاما، إذ بحلول النبي في المدينة، بانغماسه في مشاغل الدنيا، بوقوعه في حبائل التاريخ، فإنه وجد نفسه في مجال غريب عنه".

 يدعو العروي إلى مشروع قراءة النص القرآني بدون مسبقات، بدون واسطة. ويدعو إلى النقد كمقدمة أساسية لكل مشروع قراءة: نقد المتوارث من الروايات وكل ما يقال عن الحقبة التي نشأ فيها الإسلام، ومواجهة الأجوبة الجاهزة التي يتم تناقلها جيلا بعد جيل: إن "هناك أجوبة جاهزة نتوارثها جيلا عن جيل، لكنها تمثل الرواية الرسمية. هل علينا أن نجيزها على علتها، مع أن دواعي الشك فيها كثيرة وملحة. لا شيء مما يروى عن هذه الحقبة، وهي طويلة، يعلو على النقد"، لأنه لا يوجد تأويل بريء، بل "أغلب التأويلات التي تمت وتراكمت عبر التاريخ تحركها أغراض، ولا شيء منها موضوعي، بل كل تأويل هو ذاتي. هناك إذن، تاريخ ورواية رسمية، وتاريخ وتأويل غير رسمي. هذا هو الوعي المطلوب اليوم في علاقتنا بتراثنا الديني".

ويذهب الكاتب لدرجة الجزم بأن "تاريخ تراثنا الديني الإسلامي على مستوى الفهم والقراءة والتأويل، هو تاريخ صراع التأويلات، والقراءة السائدة هي دائما قراءة الفرقة المهيمنة". ويتابع: " إن المؤهلين للفوز والغلبة هم أشراف مكة، فهم الذين سيفرضون فهمهم للنص. بسلوكهم وبآرائهم سيضعون أسس السنة، أي كيفية تطبيق النص الأزلي على الواقع البشري المتحول"، فلما واجههم فريق آخر بقرآن مخالف، بدأت الفتنة.

ما يراه الكاتب من علاقة بالنص القرآني، يرى مقابلا له في تطبيقاته على السنة: "ما فعلناه مع النص المؤسس، لماذا لا نفعل مثله مع ما نسميه السنة، أي الإسلام كما تجسد وتطور في التاريخ... بناء على وضعنا الحالي وانطلاقا من معارفنا وحاجاتنا، من معتقداتنا وتطلعاتنا". إنه يرى أن الإصلاح يبدأ بتحرير النص القرآني، وأيضا من "تحرير السنة من سجن الزمن الماضي، وربطها بالزمن في سيرورته والوقائع الحادثة علينا. وبالتالي تحرير العقل السني والعلاقة التي أقامها مع النص".

يرى العروي أن الفهم السني للنص قد أدى إلى تزكية الاستبداد، وتفويض السلطة لحاكم مطلق ونفي أية ديمقراطية ممكنة، إذ "لا يتصور السني مجتمعا بلا طبقات، دع الكلام عن سلطة موزعة أو حكم مشترك. لا يحتاج إلى استلهام التاريخ ليقرر أن الديمقراطية هي عين الفوضى والمساواة فتنة مقنعة، يقول: هل الكواكب متساوية؟ هل الملائكة سواسية؟ فلماذا لا يكون بين البشر تمييز وتفضيل؟".

العقل السني بالنسبة للعروي، إنما تكون عبر فهم معين للنص القرآني ولحياة النبي، حيث "يشكل أنطولوجيا إسلامية محددة، عبرها يفهم العالم والوجود، ويبني لنفسه قيما ومبادئ يخضع لها وتنسجم مع هذه الأنطولوجيا".

وبنظرة تأويلية من لدنه، يرى الكاتب "أن النظرة القرآنية للوجود في بعض أوجهها، تقود إلى الاستبداد، وتفضي بالمسلم إلى تسليم أموره وسلطة اتخاذ القرار إلى شخص واحد يكون بمثابة خليفة الله في الأرض، إذ إنه لا يمكن أن يكون في الأرض إلا حاكم واحد هو مصدر القرار والسلطة، مثلما أن الكون هو من تسيير إله واحد على أساس أنه لو كان هناك أكثر من إله لفسدت الأمور". من هنا قداسة السلطان.

من جهة أخرى، يرى المؤلف أن التفاوت الطبقي سيغدو واقعا ضروريا عند العقل السني، الذي يرى أن "التمييز واقع ملموس على مستويات المجتمع، فهناك حاكم ومحكوم، سيد ومولى، شريف وعامي، حر ومملوك، ذكر وأنثى، بالغ وقاصر، عاقل وسفيه، عالم وأُمي، مؤمن وكافر...الخ".

العقل السني يشهر التراث في وجه أية محاولة للتغير وللتجديد، ثم يقوم بطي الزمن ليحل في الماضي ويذوب فيه. إنه يهتم بإلغاء التاريخ والوقائع، وفهمها وتفسيرها وفق ما سطرته سلطة الفقهاء المعتمدين، الذين خطوا الألواح السنية التاريخية. لو تحرك مفهوم الزمن بالعقل السني، فسيترتب عن ذلك انبعاث الجرثومة التي تقوض أركانه وتؤدي به إلى الانهيار.

بيد أن الكاتب يلاحظ أنه "لا تكون سنة إلا وتكون ضمنيا سنة مضادة، هذا ما أكدناه مرارا. كما لا تكون سنة إلا وتكون ضمنيا نيو- سنة وبوست- سنة، وهو أمر أهم من الأول، لا نراه على الفور، لأن السنة تعمل منذ قرون على طي الزمن ولا تشجع أبدا على تمديده وإبرازه".

 السنة بنظر العروي، "اختزال الوحي في الشرع، ثم اختزال الشرع في عمل مجموعة محدودة من الأفراد. فتأتي القاعدة الصارمة: الطريق السوي هو تقليد هذه الجماعة، في الكبيرة والصغيرة، والمداومة على التقليد (العض عليه بالنواجذ) جيلا بعد جيل، دون ميل أو حيد". إنها تعمل جاهدة على "اختزال التاريخ الإسلامي في جماعة من الأفراد المعتمدين شرعيا والذين يجب اتباعهم".

بيد أن الإصلاح من وجهة نظر الكاتب، يبقى رهينا "بالتخلص من سلطة الفقهاء المعتمدين، حيث لا وجود لسلطة دينية في الإسلام، تجعل فردا ما وصيا على الآخر في مسألة الفهم ما دام ذلك الفرد قادرا، وله من المؤهلات ما يمكنه من أخذ الكتاب والسنة بيده وفهمهما وفق معطيات التاريخ والعصر".

يدعو العروي بالمحصلة، إلى إصلاح مماثل، يتم فيه التحرر من سلطة الماضي والفقهاء المعتمدين (يصفهم العروي بالمشعوذين)، وجعل النص والسنة منفتحين على التاريخ والوقائع المستجدة. هكذا ننقذ النص والسنة، وننقذ أنفسنا من محاكمة الآخر الذي يعرفنا دائما بالسنة، سواء كنا معها أو ضدها".

Vous pouvez partager ce contenu