نصر حامد أبوزيد، معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية، جامعة بيرزيت، 2004، 97 ص.
في نص تقديمي عن مصطلحي اليسار واليمين، يعتبر الكاتب أن كلمة "اليسار" تطلق عادة على "الحركات السياسية والفكرية التي تدافع عن حقوق الفقراء والمستضعفين، المستغلين بصفة عامة. وهي حركات تناهض بالضرورة ما يسببه تراكم الثروة من ظلم اجتماعي، حيث يقضي امتلاك الثروة إلى امتلاك عناصر القوة والسيطرة".
أما مصطلح اليمين، فيطلق على "الحركات السياسية والفكرية التي تؤيد الحرية الفردية في مجال الاقتصاد، وتقف ضد أي محاولة لتوزيع الثروة أو لتقريب الفوارق بين الطبقات". وقد يذهب الأمر بنظره، حد تزمت هذه الحركات "ورفضها أي تدخل سياسي أو اجتماعي لضبط هذه الحرية أو الحد من توحشها".
ويلاحظ الكاتب أن الحركات اليمينية تحرص على تأكيد الحرية الفردية، خاصة في مجال حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية التعبير، بينما تبدو الحركات اليسارية أكثر حرصا على قيم "العدل الاجتماعي"، حتى لو كان ذلك على حساب الحرية الفردية.
في السياق الإسلامي، يلاحظ الكاتب أن اليسار هو "نزوع نحو التقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ونحو التحرر الفكري والثقافي، ونحو العقلانية أسلوبا في الحياة ونمطا في التفكير". ومعنى اليمين هو "المحافظة والتمسك بالتقاليد والميل إلى تثبيت الواقع".
ويقف المؤلف عند مفهوم "العدل"، ويرى أنه متأصل على مستوى الخطاب بنمطيه الإلهي والنبوي، ويتغيأ العدل الاجتماعي. التصنيف هنا يرجح كفة اليسار، ضمن التصنيفات التي يمكن أن نطبقها على تيارات الفكر الإسلامي من زاوية اليمين واليسار.
بيد أنه يلاحظ أن التاريخ الإسلامي عرف حالات عدة من التوتر والاحتقان كان الأصل فيها صراعات بين قوى اجتماعية متنافسة على السلطة والثروة معا. من هنا جدلية التصنيف أعلاه. ضمن اليسار، نجد القوى الاجتماعية التي احتجت على الخليفة عثمان مثلا، واصطفت فيما بعد ضمن معسكر علي في صراعه ضد طلحة والزبير والسيدة عائشة في موقعة الجمل، ثم مع معاوية بن أبي سفيان في حرب صفين.
من هذه الخلفية، انقسم المسلمون ما بين سنة يرفعون لواء الخلافة، وشيعة يرفعون راية الإمامة. من هنا أيضا تعددت التفسيرات والتأويلات العقلية في مقابل تلك التفسيرات والتأويلات التقليدية. إلى جانب هذا، يرى الكاتب أن المفكرين المسلمين اعترضتهم مسألة العلاقة بالآخر: التاريخي من يونان وهنود ورومان، والآخر الحي الممثل في المسيحية. ولذلك، فإن هذه المشكلة قد طرحت "قضايا العقل والنقل، تراث الأوائل ومرويات الآباء، أو بعبارة أخرى، طرحت قضايا العلاقة بين الدين والفلسفة، بين النبوة والحكمة، بين الشريعة والبرهان".
عندما يريد الكاتب أن يضع تمييزا بين المصطلحين، يضع في خانة اليسار وجه ذاك اليمين الذي لا يتحدث إلا من منطلق الخطأ والصواب. لذلك، يضع ضمن الخانة الأولى، المعتزلة والفلاسفة وبعض المتصوفة والفقهاء، بينما يضع في الخانة الثانية، الحنابلة من المتكلمين والفقهاء، إضافة إلى الذين ناصبوا التفكير الفلسفي العداء.
ويأخذ الكاتب نماذج حية من التاريخ الإسلامي ليبين كيف أنه في عصر النهضة مثلا، كان علماء الأزهر يعارضون إدخال العلوم العقلية، وكيف أنهم كانوا يعتبرونها "علوما هدامة".
بيد أن فترة الأفغاني ومحمد عبده قد طورت خطابا للنهضة ينطلق من السؤال: من أين يبدأ الإصلاح؟ ومن الذي يحدد شروطه وملامحه وأولوياته؟ وهل يبدأ الإصلاح سياسيا أم يبدأ ثقافيا وفكريا؟ وما دور الدين، والإسلام تحديدا، في مشروع الإصلاح؟
لقد كان الأفغاني يعطي الأولوية للإصلاح الفكري والثقافي والتعليمي على الإصلاحات الفوقية، وكان يرى من جهة أخرى، أن "حياة نيابية بلا وعي شعبي وجماهيري، يمكن أن تؤدي إلى تكريس الاستبداد، لا إلى القضاء عليه". وكان يتغيأ من وراء كل ذلك استعادة الأمة لمكانتها والدين الإسلامي لمجده.
بالتالي، فبالإمكان هنا تصنيف الأفغاني ضمن إطار "اليسار"، وذلك باعتباره مشروعا تحرريا من الاستعمار ثم من الاستبداد. إنه يسعى "لتأكيد قيم الحرية والمساواة والعدل، ويريد استنهاض الأمة لاسترداد مجدها والسيطرة على مصيرها". هذا خطاب يساري بامتياز.
أما محمد عبده، فخطابه لا يختلف في منطلقاته عن خطاب الأفغاني، وهذا يعني أن تأثير الثاني على الأول واضح ومؤكد، بدليل أنه "استطاع أن يحول أطروحات الأفغاني العامة إلى خطة عمل فكري ثقافي شاملة"، لا سيما بزاوية المساواة بين المسلم وغير المسلم، بين الرجل والمرأة، وذلك على أسس من "التأويل العقلاني للنصوص الأساسية".
كما انخرط عبده مثل الأفغاني، في الدفاع عن الإسلام ضد منتقديه من مفكري الغرب. بالتالي، فخطابه هو الآخر خطاب يساري في مقاصده، حتى وإن كان سلفيا في أدواته ووسائله.
ويلاحظ الكاتب أن من لحق هؤلاء المؤسسين (الكواكبي، قاسم أمين، طه حسين...الخ) ساروا على نفس الطريق، إذ نفى الكواكبي مثلا على الإسلام طابع الاستبداد، بقدر ما رده إلى "هجر الدين" والابتعاد عن قيمه ومبادئه، لا سيما في ظل سطوة البدع. الكواكبي في مشروع الإصلاح الديني سار على نهج الأفغاني ومحمد عبده والشدياق وغيرهم.
كل هؤلاء رجال "يسار" من وجهة نظر الكاتب، لأنهم ركزوا على العدل بالمعنى الاجتماعي وعلى عدم تعارض الإسلام مع العلم والحرية، لا بل ومع الاشتراكية أيضا. بالتالي، فما يلاحظه الكاتب من خلال هذه النماذج، إنما أن المشروع الإصلاحي في بداياته وطيلة مراحل تطوره، كان مشروعا يساريا بتوجهاته، لكنه كان سلفيا بمناهجه وإجراءاته.