Aller au contenu principal

"فكر ابن خلدون: العصبية والدولة" (3/3)

محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، يونيو 1994 (الطبعة السادسة)، 320 ص.

في حديثه عن "العمران البشري وحركة التاريخ: العصبية والدولة"، يرى الكاتب أن "حركة التاريخ عند ابن خلدون هي حركة انتقال مستمرة من البداوة إلى الحضارة". هذه الحركة تسير وفق ابن خلدون، لا على خط مستقيم، بل على شكل دورة، والانتقال من البداوة إلى الحضارة يتم عبر الدورة.

هذه "الدورة البدوية الحضرية" هي عقدة التفكير الخلدوني، لأن جميع آراء صاحب المقدمة تدور حولها وتتركز فيها. من هنا، وجب يقول الكاتب، اللجوء إلى مصطلح أو مفهوم العمران. والعمران بنظر الكاتب، هو من العمارة والتعمير. وهما يقاسان بالوفرة أو بالقلة، لأنهما يحيلان على المعاش. وهذه العمارة والتعمير يختلفان من إقليم إلى آخر، حسب الظروف الطبيعية والجغرافيا.

ويعتقد أن "أعدل العمران وأكمله هو الموجود في الأقاليم المتوسطة المخصوصة باعتدال المناخ". بالتالي، فاختلاف طبيعة الأرض يؤدي إلى اختلاف شكل العمران وأحواله. منطلق العمران البشري هو اختلاف طبيعة الأرض من حيث الخصب والجذب. من هنا، تختلف طبائع الناس في كسب عيشهم، "فتختلف بذلك أحوالهم الاجتماعية، بل وأحوالهم الشخصية أيضا".

إن من شروط العمران في مجتمعات البدو، الاستقرار والسكن. وهذا العمران ينشأ وينمو "بوجود الأمن واحترام أرواح الناس وأموالهم...وأيضا، فالعمران لا يزدهر إلا بالأعمال والصنائع وما يتبع ذلك من اعتبار الأجور وقيم الأعمال والأشياء".

ولعل العامل الوحيد الذي ينظم هؤلاء إنما هو الدين، وهو "العامل الوحيد الذي بإمكانه أن يقلب أحوال هؤلاء".

إن الجاه بنظر ابن خلدون هو الوسيلة "الفعالة والناجعة، المفيدة للمال والمكسبة للثروة". وهذه الطريقة هي التي يسميها ابن خلدون ب"الإمارة". والمقصود بالجاه هنا، هو "القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم، بالإذن والمنع والتسلط بالقهر والغلبة".

ولعل القهر واستعمال السلطة هو الباب الذي يفضي إلى الجاه. وهذه الأمور غالبا ما تكون من ميراث الفئة الحاكمة. وعلى هذا الأساس، فإن المقصود بالحضارة عند ابن خلدون هو "نمط من الحياة (كسب، معيشة، أخلاق، طباع، سلوك) خاص بالدولة وحاشيتها، أي بالأرستقراطية الحاكمة".

وهي حضارة ينعتها ابن خلدون بأقبح النعوت والأوصاف: إنها "غاية العمران ونهاية لعمره، وإنها مؤذنة بفساده". إنها حضارة الترف والاستهلاك بغير حساب ودون إنتاج. إنها "حياة جماعة طفيلية...تعيش وتستهلك وتبذر على حساب الرعية كلها...كل ذلك، بفضل الجاه الذي تتمتع به والسلطة التي بيدها".

أما في حديثه عن العصبية، فيعتبر ابن خلدون أن "الوازع" هو ضرورة من ضرورات الاجتماع والتعاون. والمقصود بالوازع هنا هو تلك السلطة المعنوية التي لشيوخ البدو وكبرائهم، والسلطة المادية التي تقوم على "الغلبة والسلطان واليد القاهرة وبكلمة واحدة: الملك".

بالتالي، فإذا كانت الدولة هي محور ما تدور حوله أبحاث ابن خلدون، فإن "المادة التي منها قوام وجوده هي العصبية". وهو يعاتب هنا المؤرخين الذين "لم يأخذوا أهمية العصبية في الدولة منذ تأسيسها إلى حين اضمحلالها".

لقد تناول ابن خلدون العصبية في بعدها السياسي فقط، لأنه البعد الذي يعنيه. العصبة تعني الجمعة، وتحديدا "أقارب الرجل الذين يلازمونه". العصبة تقوم أساس على القرابة. القرابة والملازمة شرطان ضروريان لوجود العصبية. والتعصب هو الانتماء إلى العصبة. الفرد هنا يفقد شخصيته، بل فرديته و"يتقمص شخصية العصبة".

لكن هذا يحتاج بنظر ابن خلدون، إلى "وعي عصبي"، الذي "يشد أفراد العصبة بعضهم إلى بعض، ويجعل منهم كائنا واحدا تفنى فيه ذوات الأفراد". العصبية إذن "رابطة اجتماعية/سيكولوجية شعورية ولاشعورية معا، تربط أفراد جماعة قائمة على القرابة، ربطا مستمرا، يبرز ويشتد عندما يكون هناك نظر يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة".

الاعتبار الوحيد الذي يميز الفرد داخل عصبته "هو فقط ذلك الاعتبار الناجم من كونه قدم خدمات لصالح العصبة ككل". لا يتمتع الفرد إذن داخل المجتمع بكيانه إلا داخل عصبة، أية عصبة. أما خارجها، "فهو يفقد هذا الكيان تماما".

أولى عناصر هذه العصبة هو النسب، أما شأنها فهو "المصلحة المشتركة الدائمة للجماعة". العصبية بنظر ابن خلدون هي وازع كبير، لا سيما في مجتمعات البدو. والوازع الذي يردع عدوان الناس على بعضها البعض في الحواضر هو الدولة وأنظمتها الأمنية.

ولذلك، فإن "العصبية في العمران البدوي تقوم بنفس الدور الذي تقوم به الأسوار والجند في العمران الحضري". العصبية ظاهرة خاصة بالمجتمع البدوي إذن. والصراع المبني على العصبية هو صراع من أجل البقاء، "صراع من أجل لقمة العيش"، لا سيما في ظل قساوة الطبيعة والظروف.

أما فساد العصبية، فيتم عندما يكثر الترف والنعيم، خصوصا عندما تنبعث مصالح شخصية متناقضة، فتنحل عراها وينهار تماسكها و"يكون مآلها هرم دولتها، فزوال حكمها".

لذلك، يعتبر ابن خلدون أن الملك هو الغاية الطبيعية للعصبية، إذ تطمح العصبية الغالبة للتغلب على أهل العصبيات الأخرى، فتدمجها وتزداد قوة على قوة بفضل ذلك. بيد أن ابن خلدون يؤكد أنه لا عصبية إلا إذا كان الناس أحرارا من كل سلطة خارجية، غالبة ومستبدة، تفسد العصبية. أما العنصر الثاني، فهو استبداد "الترف والنعيم".

بخصوص هرم الدولة، يعتقد الكاتب أنها هي المرحلة التي تفسد فيها العصبية الحاكمة، "فيلجأ الملك إلى الاستعانة بالموالي والمصطنعين والمرتزقة والالتجاء إلى الضرائب والمصادرت، لتغطية نفقاته ونفقات حاشيته التي أفسدها الترف وأعطيات جنوده الذين يشتطون على هذه المرحلة في الطلب لعلمهم بحاجة الملك إليهم".

بالتالي، فإن "ظروف هرم الدولة يرافقها دوما إرهاق الفلاحين بمختلف أنواع المغارم والجبايات، فيشقون عصا الطاعة إما بالفرار وإما بإعلان العصيان. وفي كلتا الحالتين، تستيقظ عصبياتهم وتتوحد ضد عصبية الحاكم التي تكون حينئذ فاسدة مشلولة، فيقومون بالثورة عليه أو بمناصرة خصومه من أهل عصبته المطالبين بالعرش".

Vous pouvez partager ce contenu