علي الوردي، دار كوفان للنشر، لندن، 1995، 274 ص.
بمقدمة الكتاب، يقول المؤلف، إن دأب الوعاظ عندنا هو أن "يتركوا الطغاة والمترفين، ويصبون جل اهتمامهم على الفقراء، فيبحثون عن زلاتهم وينغصون عليهم عيشهم، وينذرونهم بالويل والثبور في الدنيا والآخرة".
وسبب هذا التحيز بنظره، إنما راجع إلى "أن الواعظين كانوا ولا يزالون، يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة"...لذلك تراهم "يغضون الطرف عما يقوم به هؤلاء من التعسف والنهب والترف، ثم يدعون الله لهم فوق ذلك بطول العمر".
ويتابع الكاتب: "ويخيل لي أن الطغاة وجدوا في الواعظين خير معوان لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم. فقد انشغل الناس يوعظ بعضهم بعضا، فنسوا بذلك ما حل بهم على أيدي الطغاة من ظلم".
إن السوقي، بنظر الكاتب، يجد نفسه مضطرا إلى الاندفاع وراء أنانيته لكي يعيش، بينما يطارده الواعظون بدعوى أن "الأنانية ذنب قبيح". الواعظ هنا يرفع مسؤولية الظلم الاجتماعي عن عاتق الظالمين ويضعها على عاتق المظلومين، "فيأخذون بالاستغفار وطلب التوبة...فيرتاح الطغاة لأنهم أزاحوا عن عاتقهم مسؤولية المظالم".
إن هذا الكتاب، يتابع المؤلف، إنما الغرض منه ضرورة اتباع نمط آخر في التفكير، تفكير البقال والحمال واليائس والفقير.
إن للإنسان عقلين، ظاهر وباطن. الوعظ يطال الظاهر، فيما يبقى الباطن "مشغولا بما يوحي به العرف الاجتماعي إليه من قيم واعتبارات". وهذا ما يطلق عليه بازدواج الشخصية.
ويلاحظ الكاتب أن العرب هم أكثر أمم الأرض ازدواجا في الشخصية، إذ "وقعوا أثناء تطورهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين، هما البداوة والإسلام". البداوة تحمل على الكبرياء وتفتخر بالنسب، في حين أن الإسلام هو دين الخضوع والتقوى والعدالة...الخ.
العربي بدوي في عقله الباطن، مسلم في عقله الظاهر. هذه الازدواجية نجدها في المجتمعات البدوية (الحجاز، العراق...الخ)...وتقل كلما اتجهنا نحو مراكز المدينة. والدليل أن المرء قد يكون واعظا، لكنه يدافع عن عشيرته وطائفته...الخ. القلوب بدوية، فيما الألسنة إسلامية.
كان الفرد، في عصر الخلفاء الراشدين، "يحتج على الحكام بالحجة الدينية، ثم يثور عليهم بالسيف البدوي. فهو في أعماله قبلي فخور، وفي أقواله تقي زاهد".
لقد توقف الكاتب عند المرحلة الأموية، ورأي أنها كانت مرحلة فتن وحروب، وكان خلالها الواعظ هو المحارب. لذلك، لم يكن ثمة من توازن بين إكراهات "الدولة" ونفور الدين من العنف. لقد كانت ثمة ثغرة بين الدين والدولة حاول العباسيون إزالتها.
بيد أن الأمر لم يكن بالهين، إذ "إن جمع الدين والدولة من طبيعة متفاوتة، ولا يمكن أن يتلاءما تلاؤما حقيقيا. فالدولة تقوم عادة على أساس القهر والتسلط والاستغلال، هذا بينما يقوم الدين على أساس الرحمة والعدل والمساواة".
وعلى الرغم من ادعاء الحاكم العباسي التدين والورع، فإنه كان مثله مثل حكام بني أمية، مجبولا على القسر والاستغلال.
الخليفة العباسي، "إذا جاء وقت الموعظة بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى". ويستشهد المؤلف برواية عن هارون الرشيد التي أوردها الأصفهاني صاحب "الأغاني": "كان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة".
كان الواعظ يخيف الرشيد من غضب الله، لكنه لا يعضه في احتمال غضب الناس، لأن الواعظ هنا يكون قد تجاوز: "إن غضب الله أهون على الرشيد من غضب الناس. فالله على أية حال غفور رحيم".
لقد ازداد عدد الواعظين في ظل الدولة العباسية، وكان الولاة والوزراء ينهبون لبناء المساجد والتكايا للترفيه عن "المرتزقة الذي يأوون إليها من طلاب الفقه والعبادة...وكان الواعظ يعطي على مقدار ما يتحذلق به من جيد اللفظ وبلاغة الأسلوب".
لقد اتخذ الوعظ في العهد العباسي، طريق الازدواج: "إذ صار لهم قلبان: يسمعون الموعظة بأحدهما، ويسمعون رنين النهود والنقود بالآخر. فليس هناك إذن صراع نفسي ولا قلق اجتماعي ولا هم يحزنون".
يبدو الأمر كما لو أن المرء بمستطاعه أن ينهب ويسرق، ثم يعطي جزءا مما ينهب إلى العباد والوعاظ والزهاد "لينوبوا عنه أمام الله، يستغفرونه له". لذلك، ف"من الممكن القول بأنه كلما كان الظلم الاجتماعي أشد، كان بناء المساجد وتشجيع الوعظ أكثر".
ويخلص الكاتب إلى القول: "الوعاظ والطغاة من نوع واحد. هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم وأولئك يظلمونهم بأقوالهم"...وقد برع الفقهاء في ذلك بما يسمونه بالحيل الشرعية. فهم يستطيعون أن يجدوا مسوغا شرعيا لكل عمل مهما كان دنيئا".
إن الخليفة، يقول الكاتب، "يشعر من جراء إيحاء المنزلتين له بأنه ظل الله في الأرض حقا، له الأمر وعلى رعاياه الطاعة، فإن عصوا فهم زنادقة ملحدون، يلعنهم الله ويلعنهم الناس"
يعتقد الواعظون أن غلوهم في الوعظ من شأنه أن يحسن أخلاق الناس ويسمو بها: هو سحب آلي نحو الأفق الأعلى، سحب من التحت يقول الكاتب.
ويختم بالقول: "إن النفس البشرية تهوى الإيمان بدين. فإذا فقدت دينا جاءها من السماء، التمست لها دينا يأتيها من الأرض".