علي الوردي، دار كوفان، الطبعة الثانية، لندن، 1995، 274 ص.
يلاحظ المؤلف في مقدمة هذا الكتاب، أن المفكرين الأفلاطونيين يعتقدون بأنه من الممكن ومن السهل أيضا، إصلاح الأخلاق. بيد أن الأمر إن كان صحيحا، فهو لا يمكن أن يمر عن طريق الوعظ، لأن الطبيعة البشرية برأيه، لا تخضع للإصلاح على هذا الأساس، أي بالارتكاز على منطوق الكلام أو مبتغاه. إذ لا يمكن محاربة الانحراف الجنسي في الغرب مثلا، لأن المجتمعات هناك لا تعظ، بل تسمح بالاختلاط.
إن الوعاظ الذين يستنكرون هذا الاختلاط ويعتبرونه فجورا وفسقا، هم أنفسهم من تستر على الأمراء الذين كانوا يخفون جواريهم، إذ "يحذر الوعاظ من رؤية النساء، لكنهم يباركون للأثرياء اشتراء الجواري، ويفرقون بين اللواط بين الأحرار ولواط الثري بغلامه، فالأول يقتل والثاني يعزر...الجواري التي تغني للملوك لا يتكلم عنها الوعاظ، لكنهم يهتمون بغناء الفقراء والمعدمين".
إن الوعاظ، بنظر الكاتب، إنما يقفون مع الحاكم ضد المحكومين، "فإذا ظلم الحاكم قالوا اجتهد فأخطأ والعصمة لله، أما إذا أخطأ المحكوم، أرعدوا وزمجروا ونسبوا له (المحكوم) سبب كل بلاء يصيب الأمة".
عندما يتحدث الكاتب عن "الوعظ والصراع النفسي"، يلاحظ أن الوعظ يعارض الحياة الطبيعية، لأن الإنسان يحب الدنيا والواعظ يطلب منه أن يكرهها، العرف الاجتماعي يحبذ غريزة جمع المال، والوازع الديني يحد منها، مع العلم أن الواعظ نفسه "يعشق المال". لذلك، يعتقد الكاتب أن للواعظ وجهان: "وجه يعظ به الناس، ووجه يعيش به حياته الحقيقية".
في حديثه عن "الوعظ وازدواج الشخصية"، يلاحظ الكاتب أن الأمويين كانوا أقرب للبداوة، لأنهم كانوا يحتكمون للسيف، في حين أن العباسيين حاولوا التوفيق بين الدولة والدين. ولذلك، فقد كانوا أقرب للازدواج. "فإذا كان وقت الموعظة بكوا، وإذا كان وقت الحكم طغوا... هارون الرشيد كان يبكي من الموعظة حتى يغشى عليه، ثم يشتري الجواري بالملايين من أموال الأمة". بالتالي، فإن الأموال التي كانت تؤخذ من الناس، "كانت تؤخذ بالقوة والسوط والتهديد، ويصرفها أمير المؤمنين في شراء الجواري والحفلات".
أما العامة بنظر المؤلف، فكانت تعاني من الصراع النفسي، "لكن الازدواج في الشخصية سهل لهم الحياة، فأصبح لهم قلبان: قلب لسماع الموعظة، وقلب لسماع صوت النهود والنقود".
ويلاحظ الكاتب أن الفقهاء يبررون أفعال السلاطين عبر الحيل الفقهية المختلفة، لكنهم نادرا ما يطلبون منهم أن يعدلوا. إنهم يؤلهونهم وفي أحسن الأحول يعتبرونهم ظل الله في الأرض.
ثم إنهم يضعون أهدافا أخلاقية عالية، "تجعل الناس عاجزين على تحقيقها. لكنها تمكنهم من محاكمة بعضهم بالاعتماد على نفس المعايير، فيكفر بعضهم بعضا ويسب بعضهم بعضا".
من جهة أخرى، يرى الكاتب أن الوعاظ يعتبرون السلف صالحا بدون عيوب. بيد أنه يلاحظ أن "الدراسة الموضوعية، تبين أن السلف الصالح كانوا يتحاسدون ويبغضون ويطلبون الشهرة كمثل باقي الناس"، لا بل وينافقون. فعهد السلاطين العثمانيين كان "عهد ظلم وشر، والوعاظ كانوا يدعون لهم بالنصر والفلاح".
يحاول الوعاظ، بنظر الكاتب، إصلاح الأخلاق بالنصيحة المجردة، "وهم لا يعرفون أن الأخلاق وليدة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية". إنهم يتجاهلون أن "اجتماع الغنى الفاحش والفقر المدقع في مكان واحد يحدث الانفجار والثورة، وأن الضرائب التي كانت تجبى بالسوط من الفقراء، كانت تذهب لجيوب الأغنياء فتزيدهم غنى".
ويقدم الكاتب أمثلة عن الضغينة التي كان المال يتسبب فيها منذ القدم: فأبو بكر كان يقسم المال بالمساواة، فغضب الناس وقالوا إنهم يتفاوتون في الفضل والسوابق. وقسم عمر المال حسب الفضل والسوابق فلا يعطي من قاتل الرسول كمن قاتل معه. وقسم عثمان المال كما قسمه عمر، لكنه أطلق الأغنياء من المدينة وأعطى الطلقاء أكثر من المهاجرين والأنصار، وأصبح الأثرياء يدفعون أموال زكاتهم وحدهم ودون تفتيش من جباة الزكاة.
ولما ثار أبا ذر الغفاري على الوضع ضد الأثرياء، ودعاهم لتوزيع أموالهم على الفقراء، نهاه عثمان بن عفان عن ذلك، فيما اعتبر الكثير من الوعاظ أن "أبا ذر الغفاري كان ذا نظر قاصر وأثرت فيه دعوة أهل الفتن، ولم يكن يعلم أن عثمان كان أكثر ورعا وعلما".
الناس بنظر المؤلف، يفسرون الدين حسب مصالحهم، "إذ يستندون على آية من القرآن أو حديث من النبي، ليقتلوا بعضهم البعض. وكل فرقة لها أحاديث وآيات تبرر موقفها". لذلك، انقسم المسلمون إلى طائفتين، "فنسيت الأولى العدو الكافر، ونسيت الثانية الظالم المسلم. والذين لا يريدون رد الظالم المسلم هم الذين يزعمون أن كل مصيبة تصيبهم هي صنيعة الأجانب".
ويتابع بأن الواعظين يقسمون رجال التاريخ إلى قسمين: "أشرار وأخيار، وهم يغضبون إذا جئتهم بواقعة تاريخية فيها أن أحد الأخيار قد قام بأمر سيء، أو أحد الأشرار قد قام بأمر جيد". وهو ما يقوم به بعض المؤرخين أيضا، إذ يقسمون الشخصيات التاريخية إلى أشرار وأخيار، فلا يقبلون بالأخبار التي تفيد عكس تقسيمهم.