تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الإنترنيت والواقع المغربي: تقييم وتقويم

 1- الحديث في الإنترنيت بالمغرب هو، في حقيقة الأمر، من الحديث في موضوع نسجنا حوله الكثير من الأفكار الجاهزة وحصرنا بشأنه العديد من الأحكام المسبقة:

 - فالإنترنت (كشبكة أو كشبكة شبكات أو كبروتوكول أو كوسيلة إعلام واتصال أو كغيرها) لربما حملناه بالمغرب أكثر مما يحتمل...فجعلنا منه (في الخطاب بالأساس) رهانا ومصدر حل للعديد من القضايا والإشكالات المطروحة.

والواقع أن الإنترنيت (كغيره من الشبكات والتكنولوجيات) لا يجب أن ننظر إليه، في المحصلة النهائية، من زاوية ما يقدمه من خدمات وما يوفره من إمكانات، ولكن من زاوية الاستعمال الذي يخضع له ومن منطلق الاستغلال الذي نقصده منه.

بالتالي فالعبرة بالاستعمال والاستغلال وليس بالعرض التكنولوجي والوفرة الخدماتية المتوفرة.

 - والنظر، ثانية، لشبكة الإنترنيت من زاوية التقييم والتقويم (كما هو مطلوب في ورقة هذه الندوة) يطرح، على الأقل، إشكالان منهجيان لا يمكن أن نغفلهما أو نغض الطرف عنهما:

 + فالتقييم صعب في الوقت الراهن ليس فقط لأن الشبكة لم تستقر بعد، وخدماتها لم تعرف كلها، والفاعلون بالشبكة غير محددين، والشبكة في حد ذاتها غير مقننة أو هي في طريقها إلى التقنين و لا "وصاية" على الفاعلين بها...ولكن أيضا لأن الشبكة، فضلا عن ذلك، لم تعرف  منافعها الكاملة بعد ولم يتسن لمخاطرها  أن تطفو، في مجملها، على السطح .

 بالتالي، فتقييم الشبكة (كتقييم أي ظاهرة أخرى) لا يمكن أن يتم في عدم استقرار الظاهرة وتحرك العناصر المكونة لها...والوقت الفاصل بين نشوء الظاهرة وزمن التقييم قصير نسبيا حتى يكون بالإمكان رؤية مفعول الشبكة على الأفراد أو على الجماعات أو على الاقتصاد أو على المجتمع أو على غيرها. هذا أمر جوهري في تصورنا: لا سبيل للتقييم إلا في استقرار الظاهرة واستقرار مكوناتها.

 + الإشكال الثاني ويتعلق بما أسمته الورقة ب "التقويم"...التقويم قياسا إلى أية مرجعية وعلى أي أساس ووفق أي تصور وبأي الأدوات؟ وحتى لو توفرت المرجعية وحدد التصور والأدوات، فنحن لسنا أصحاب الشبكة ولا نصيب لنا بها يذكر حتى نفرض تصورنا للتقويم...أي لتزكية ما هو صحيح وتصحيح كل ما من شأنه أن يكون اعوجاجا...بالتالي فالمتحكمون في الشبكة (بنية وتطبيقات ومحتويات) هم الذين بيدهم إمكانيات التقويم وضبط الاختلال.

 وعلى هذا الأساس، فبقدر ما لا يمكن الزعم بإمكانية تقييم علاقة الإنترنيت بالواقع المغربي، بقدر ما لا يمكن الزعم بالقدرة على تقويم ما قد يكون انزلاقا للشبكة.

من هنا فالمطلوب، في الظرف الحالي، إنما هو العمل على تقييم الخطاب حول شبكة الإنترنيت بالمغرب من منطلق ما يقدم من "مشاريع" أو من تصريحات رسمية أو من أدبيات رائجة حول الموضوع.

 2- هناك، فيما نتصور، أربع مفارقات أساسية غالبا ما تطرح في الخطاب الرسمي حول المسألة كعلاقات بين الإنترنيت والقضايا الجوهرية الكبرى بالمغرب في حين أنها لا تعدو كونها مفارقات:

 - المفارقة الأولى، هي مفارقة العلاقة بين الإنترنيت والتنمية بالمغرب والتي غالبا ما تتم الموسطة لها عبر المراهنة على التجارة الإلكترونية والترويج لأطروحة "الاقتصاد الجديد" من خلال ما بدأ يسمى ب "المركبات التكنولوجية" (من قبيل فضاء الدار البيضاء "التكنولوجي" وغيره) وما سيمكن هذا الاقتصاد الجديد من سبل للتنمية وخلق لفرص الشغل وتمكين المقاولات من التكنولوجيا الجديدة.

 أين المفارقة في هذا الباب؟ المفارقة هي:

°°- أن نموذج التنمية بالمغرب لم يحدد بعد حتى يكون بإمكانه استثمار ما توفره شبكة الإنترنيت. بمعنى أنه يجب تحديد نموذج التنمية المطلوب ثم تحديد ما نريد من الإنترنيت وتحديد طريقة وسبل التوظيف.

الحاصل بالمغرب أننا لم نفرز، وطيلة أربع عقود من الاستقلال، نموذجا في التنمية يبنى عليه ويقاس...  بالتالي لا زلنا لحد الآن نؤخر سؤال نموذج التنمية ونحاول، كلما استجد مستجد، أن نضعه جنبا إلى جنب مع باقي المستجدات دونما صهرها مجتمعة في نموذج التنمية الذي من المفروض أن يكون تحديده محسوم مسبقا. هذا إشكال مركزي دون شك كبير: يجب تقديم سؤال التنمية على سؤال دور الإنترنيت( والتكنولوجيا الجديدة عموما) في التنمية.

 °°- أن المراهنة (خطابا بالأساس) على التجارة الإلكترونية يطرح أكثر من تحفظ. ف 95 بالمائة من "نسيجنا" الاقتصادي مكون من مقاولات صغيرة ومتوسطة، غالبيتها عائلية و تعيش ظروفا صعبة وتحاول التهيكل باستمرار وتعتبر في معظمها أن الاتصالات والمعلوميات والانترنيت وغيرها هي عناصر تكلفة (يجب تقليصها إلى أدنى حد) وليست ميزة تنافسية يجب الاستثمار فيها.

 °°- وأن معظم هذه المقاولات (كي لا نقول جلها) لا تزال تعمل في تخصصات الجيل التصنيعي الأول والثاني وليس لها أدنى فكرة عن مقومات المنافسة الجديدة وطبيعة الصراع الجديد على الأسواق...بالتالي فمن شبه المستحيل عليها أن تنافس بسلع وخدمات تقليدية، ذات جودة متوسطة وبكلفة متزايدة...من الصعب عليها منافسة دول قطعت أشواطا طويلة في التخصص الإنتاجي وتوظيف الشبكات لتحقيق ما يسمى ب"الميزة التنافسية".

 على ماذا ستراهن هذه المقاولات إن هي سلكت طريق التجارة الإلكترونية؟ وهل تتوفر على الإطار القانوني والتشريعي الذي سيضمن لها النجاح في التبادلات المالية واللامادية ؟ وهل يتوفر المقاولون المغاربة (ضيقي الأفق) على الثقافة الاقتصادية الكافية لخوض غمار منافسة بالشبكة تثبت الدراسات أن جزءا كبيرا منها يتم بطرق مضارباتية أي سيطرة المضاربات على الاقتصاد الواقعي؟

 °°- وأنه ليس من المؤكد أن الإنترنيت سيخلق فرصا للشغل إضافية وجديدة بالمغرب...فلو استثنينا مقاهي الإنترنيت وبعض الوظائف الجديدة بما يسمى " فضاء الدار البيضاء"، فإن المنافسة القائمة عالميا ستدفعهم على المدى المتوسط إلى الإفلاس لأن المقاولات القائمة إما هي نتاج إعادة الهيكلة بالدول الكبرى وإما مقاولات لتسويق سلع وخدمات تكنولوجيا الإعلام والاتصال الجديدة لا تقدم قيمة إبداعية إضافية.

ولعل خير مثال على ذلك ما يقع باتصالات المغرب: فقد راهن الخطاب الرسمي على إمكانية خلقها لمناصب شغل جديدة بعد خوصصتها، لكن الحاصل أنها تعمل الآن جاهدة للتخلص من أكثر من نصف مستخدميها بطرق الترغيب تارة وعبر سلك سبل الترهيب عبر التسريحات والاستغناءات  تاراة أخرى.

 محصلة كل هذا هو القول بضرورة وضع علاقة الإنترنيت بالتنمية وبالتجارة الإلكترونية وبالشغل موضع تساؤل جدي وتفكير معمق عوض الاستمرار في الإيهامات والمماهاة، لأن علاقة الإنترنيت بالمغرب علاقة غير مضبوطة لأنها غير مدروسة.

 - المفارقة الثانية هي مفارقة العلاقة بين الإنترنيت والسياسات العمومية بالمغرب فيما نسمعه من خطاب عن ربط المدارس والجامعات والإدارات والمستشفيات وغيرها بشبكة الإنترنيت في أفق من الآفاق. هنا أيضا (كما في المفارقة الأولى) علاقة مفارقة لا علاقة تفاعلية كما يدفع بذلك الخطاب الرسمي الرائج. لماذا؟

 + أولا لأن الدولة (من الناحية المبدئية والعملية أيضا) مطالبة بالانسحاب من القطاعات الاستراتيجية الكبرى وهي تنسحب بالفعل. كيف لها إذن وهي المنسحبة أن تستثمر في تجهيز المدارس والجامعات والمستشفيات والإدارات وغيرها وتربطها بشبكة الإنترنيت؟ كيف لها ذلك وهي تستطيع بالكاد تمويل ميزانية التسيير بمداخيل الخوصصة...؟

 هذه مفارقة لا بد من مساءلتها: دولة تنسحب، تبحث عن موارد لتمويل ميزانيتها...تتبجح بمجتمع المعرفة وتعد بأنها ستجهز المؤسسات العمومية بتكنولوجيا جديدة للإعلام والاتصال كالإنترنت تقدر بملايير الدراهم، كيف ستجهز والقطاعات التكنولوجية (كاتصالات المغرب) خرجت من يدها أو تكاد؟

 + ثانيا، ما الفائدة من ربط الإدارة المغربية بشبكة الإنترنيت وعقليتها لا تزال عقلية زبونية ومحسوبية وارتشاء وإقصاء وتهميش وغيرها؟ وما الفائدة من ربط المستشفيات بالمغرب إذا كانت الصحة آخر المفكر فيه رسميا والمغاربة (بدون استثناء ربما) يشكون تعذر التطبيب وتراجع التغطية. نفس الشيء بالنسبة للجامعات (حيث لا قيمة للبحث العلمي) ونفس الشيء بالنسبة للعديد من القطاعات الأخرى.

 + ثالثا، ما الفائدة من التجهيز الضروري للوصول إلى شبكة الإنترنيت في غياب المحتويات، بمعنى أنه حتى لو سلمنا بالربط بالشبكة، فإننا سنكون مستهلكين لمحتويات خارجية...هذا إذا كان بإمكاننا لغويا الوصول إليها وقراءة محتوياتها.

 هذه نقطة جوهرية لا بد من الوقوف عندها: كيف لدولة تخوصص المؤسسات التي يمكنها تجهيز الإنترنيت أن تجهز بنفسها؟ وكيف لها أن تكون فاعلا دونما توفرها على الوسائل؟ وما الفائدة من ربط المؤسسات إذا كانت السياسات القائمة عليها غير محددة ولا إمكانات لها لتنفيذها؟

 - المفارقة الثالثة هي مفارقة العلاقة بين الإنترنيت والمجتمع عامة، وفي مقدمتها علاقته بالشباب. في بحث ميداني لأستاذ بجامعة القاضي عياض بمراكش قام به طيلة شهري يوليوز وغشت 2001 عن طبيعة العلاقة بين الشباب في برشيد وبين الإنترنيت، يتبين أن 60 بالمائة من الشباب المستطلع رأيه "يوظف" الإنترنيت لربط علاقات مع أناس خارج المغرب 40 بالمائة من هذه ال 60 بالمائة للحصول على عمل بالخارج.

 ثم أن مستخدمي الإنترنيت "الذين يفضلهم" هؤلاء الشباب هم الفرنسيون (بنسبة 55 بالمائة) والكنديون (47 بالمائة)...وهو ما يحيلنا أيضا على إمكانات الشغل التي تمكنها كل من فرنسا وكندا. العبرة من هذا الاستبيان هو أن وظيفة الإنترنيت بالنسبة للشباب المستطلع رأيه إنما هي البحث عن سبل للعمل بالخارج.

 بالمقابل لو تساءلنا عن علاقة الإنترنيت بمختلف ضروب البحث عن المعلومات والمعارف الجديدة، نجد أن العلاقة بينها وبين الإنترنيت علاقة غير قائمة إلا بالنسبة لشريحة تتوفر على الإمكانيات المادية واللغوية والتأهيل الكافي لذلك. بالتالي فعلاقة الإنترنيت بالمجتمع في المغرب تبقى معاقة أيما تكن الإعاقة طالما بقيت معاقة سبل البلوغ للشبكة وإمكانات تملكها...وهو أمر مستبعد قياسا إلى التزايد الخطير في حجم والتفقير الذي تعرفه الطبقات المتوسطة وظروف الأمية التكنولوجية المتزايدة.

 هذا أيضا أمر مركزي يجب أن نثيره باستمرار: أمر العلاقة بين الإنترنيت والمجتمع بالمغرب.

 - المفارقة الرابعة: أين الثقافة من كل هذا أعني ما علاقة الإنترنيت بالثقافة بالمغرب؟

 + أولا علاقتنا بالثقافة في المغرب علاقة شاذة في الظروف الطبيعية، فما بالك لو أضيفت لها المستجدات التكنولوجية... بالتالي فإذا كنا كمجتمع لا يقرأ الكتاب الورقي فكيف له أن يقرأ الكتاب الرقمي. هذا إشكال أساسي حتى وإن أعطى الإنترنيت للكتاب زخما في الانتشار وفتح له آفاقا للرواج واسعة.

 + ثانيا، ثقافتنا بالمغرب محكومة بمنطق الشفوي لا بالاعتبار الكتابي أو التوثيقي...ولهذا السبب انتشر النقال من اليوم الأول ولم يتمكن الإنترنيت من ذلك حتى وإن كان دخولهما بالمغرب متزامنا. قد يكون تفسير ذلك في أن الهاتف النقال (وحتى الصحون المقعرة) جاء كرد فعل على ضعف في الاتصالات والأداء التلفزي، في حين أن الانترنيت لم يأت كحاجة مجتمعاتية.

 + ثالثا، عطاؤنا بالانترنيت كمضامين وكمحتويات "ثقافية" هزيل لدرجة الانعدام ونصيب اللغة العربية ضعيف جدا ودور المكتبات الرسمية المغربية في هذا الإطار معدوم إلى حد بعيد.

ما يزيد هزالة عطائنا "الثقافي" (أي المحتويات والمضامين التي قد لا تكون بالضرورة ذات طبيعة ثقافية) أن الرأي السائد هو التمييز بين البنية التحتية وبين المضامين...وهذا طرح بيروقراطي وتكنوقراطي خاطئ لأن المضامين جزء من البنية والعكس بالعكس، بمعنى أن لا قيمة للإنترنيت تذكر إذا لم تتوفر بها المضامين و لا إمكانية لترويج المضامين في غياب الشبكة. بالتالي فإذا لم نتمكن من تزويد الشبكة بمضاميننا ومحتوياتنا، فإننا سنتحول إلى مجرد مستهلكين جامدين.

 + رابعا، القول بأننا نتقدم باتجاه "مجتمع الإعلام والمعرفة" هو تصور مبالغ فيه لحد كبير لأن الدول الكبرى ذاتها تراهن على مجتمع الإعلام لا على مجتمع المعرفة على خلفية أن الثاني لا حق للأول وليس سابقا له.

 الشبكة، شبكة الإنترنيت بالمغرب، هي إذن وبكل المقاييس شبكة نخبوية بامتياز وستبقى كذلك طالما لم تحدد بعد سبل بلوغ "الجماهير" لها وتوفر القدرة لديهم على تملك محتوياتها ومضامينها.

 لو كان لي أن أختم لوقفت عند أمرين لا بد من التأكيد عليهما:

- ضرورة تحديد نموذج للتنمية المرجوة واعتبار الإنترنيت مكونا من مكوناتها لا المراهنة على الإنترنيت لتحديد هذا النموذج...وتحديد هذا النموذج يفترض من بين ما يفترض توفر رؤية.

 - لا يمكن للأنترنيت أن يعطي المغرب إلا بالقدر الذي يعطيه المغرب للأنترنيت...حينها ستصبح العلاقة علاقة حميمية لا علاقة مفارقات كما هو عليه الأمر راهنا.

 الأيام الثقافية الثالثة لطلبة مدرسة علوم الإعلام، الرباط، 20 نونبر 2001، جريدة العمل الديموقراطي، 31 يناير- 6 فبراير 2002.

يمكنكم مشاركة هذا المقال