ثمة سلوك قار غالبا ما يلجأ إليه الاحتلال، أيا تكن طبيعة الاحتلال، لتطويق مدينة "متمردة"، أو محاصرة جهة مناهضة، أو إحكام القبضة على مداخل تجمع بشري أو مخارجه: سلوك الحواجز الإسمنتية المتحركة أو الثابتة، وسلوك نقط التفتيش المكثفة، وسلوك اللجوء لاعتماد أسلاك شائكة، لرصد حركة الذهاب والإياب من وإلى المجال الجغرافي المراد "حمايته"، أو "تحصينه"، أو عزله بالجملة والتفصيل، عن محيطه المباشر.
هو سلوك مؤقت في الغالب الأعم، محدد الأهداف والغايات، ينتفي حتما بانتفاء الحاجة إليه وتراجع الظروف التي أملته، أو بإدراك الأهداف المرتجاة، أو يتم تجاوزه موضوعيا، عندما يرحل الاحتلال، ويعمد السكان تلقائيا إلى تطبيع مداخل مدنهم، وقراهم، وأحيائهم.
وإذا كانت الاحتلالات ذات الخاصية الاستيطانية (بجنوب إفريقيا مثلا)، أو المقتلعة لهوية الأرض والجغرافيا كما في حال إسرائيل، غالبا ما تلجأ إلى ذات السلوك، للاحتماء من سبل الاحتكاك مع السكان الأصليين أو التحصن ضدهم، فإنها تدفع بالقطع، ومن تحصيل حاصل، إلى تمترسها قسرا (الاحتلالات أعني) خلف أسوار محصنة، صعبة الاختراق بالليل كما بالنهار، نادرا ما يتم مطاولتها بنجاح.
لم يعمد إلى تشييد الأسوار الفاصلة، المانعة والجامعة، إلا في ثلاث حالات قد تتقاطع في الغايات، لكنها تتباين في المسوغات الثاوية خلف ذات الإنشاء:
+ الحالة الأولى، وتتمثل في حائط برلين الشهير، والذي استدعته موازين القوى على الأرض بأعقاب الحرب العالمية الثانية، تم بموجبها شطر ألمانيا إلى نصفين، لكل منه منظومته العقدية، ومرجعيته الفكرية، وجهة الولاء الأولى والأخيرة، لا يتواصلان في الحالات المثلى إلا من "وراء حجاب".
+ الحالة الثانية، ونجدها بجدار الفصل العنصري، الذي أقامته إسرائيل في أعقاب الانتفاضات الفلسطينية المتتالية، والذي كان القصد منه "صد الهجمات" الاستشهادية التي كانت تنفذها حركات المقاومة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، أو تثوي خلفها من بين ظهراني المستوطنات بالضفة وغزة.
+ أما الحالة الثالثة، فهي حالة حي الأعظمية ببغداد، حيث أوشك الاحتلال الأمريكي على تسييجه بجدار خرساني بعلو ثلاثة أمتار ونصف، على امتداد خمسة كيلومترات، محصنة المداخل والمخارج، موزعة على نقط تفتيش، مجهزة بتقنيات في المراقبة والرصد، سيكون من المتعذر حقا، التحايل عليها أو تجاوزها بيسر.
وإذا كان بإمكان المرء أن يتفهم مسوغات بناء حائط برلين، في زمن بلغ الاحتقان الإيديولوجي في خضمه مداه الأقصى، فإنه لا يستطيع، وإن على مضض، استساغة ما قامت به إسرائيل (ومن قبلها جنوب إفريقيا)، إلا في كونه فصلا عنصريا خالصا، غايته القصوى "تنقية العنصر اليهودي من الشوائب"، حتى وإن تم ذلك مقابل استئصال شعب بأكمله من محيطه الطبيعي والبشري المباشر.
ليست الأعظمية مدينة قائمة الذات. هي مجرد حي من أحياء بغداد الكبرى، يسكنه نصف مليون من البشر، على مساحة 27 كليموتر مربع، تجمعوا طواعية منذ قدم العهود، حول مرقد الإمام أبي حنيفة النعمان، يكون المرء مضطرا للمرور عبره، واجتياز أزقته لعبور دجلة على جسر الأئمة لبلوغ مدينة الكاظمية، سيما بالنسبة للقادمين من مدينة الصدر.
وعلى الرغم من كون غالبية سكان الحي هم من العرب السنة، فإن ذلك لم يكن يوما مدعاة إشكال، أو مكمن مشكل ما، بين الغالبية إياها وباقي "الأقليات" المتواجدة به، المتعايشة معه على نفس الرقعة الجغرافية، أو القريبة من محيطه ومداره.
ولما كانت خلفيات الاحتلال طائفية ومذهبية منذ اليوم الأول، فقد عمد طيلة الأربع سنوات الماضية، على تأجيج ذات النعرة فيما بين المدن وداخل المدينة الواحدة، مؤنبا الشيعة ضد السنة، والأكراد ضد العرب، والطوائف والملل والنحل ضد بعضها البعض، حتى بات الكل بالعراق، مع الكل ضد الكل.
ليس لحي الأعظمية خاصية محددة ما (اللهم إلا تواجده بقلب بغداد، على الضفة الشرقية لنهر دجلة الخالد، حيث الغالبية الشيعية)، حتى يتحول إلى مادة للرواج الإعلامي الواسع، والموسطة الإخبارية الكثيفة. وليس به (اللهم إلا ساكنة سنية متحصنة حول ضريح أبو حنيفة النعمان وحفيده)، ما يجعله "محج" فرق الموت، ووجهة ميليشيات الأحزاب الطائفية، تقتل الناس على الهوية البدائية، لكن بعقيدة ثأرية مرضية، عنصرها الناظم مقولة إن "لا لغة مع من كان ذووهم بالسلطة لأكثر من أربعين سنة، إلا لغة النار والحديد".
وعلى هذا الأساس، فإن المقاومة بهذا الحي بالذات، لم تأت فقط كرد فعل عفوي على ممارسات الاحتلال، واستباحته لسكان الحي بالقصف من الجو، كما بالاقتحامات الهمجية بأنصاف الليالي، كما بالزج العشوائي بالسجون، بل أتت أيضا كرد فعل على أحزاب، وفرق موت، وميليشيا تحتمي بالاحتلال وبحكومات الاحتلال المتعاقبة، دمرت فيما مضى مدن الفلوجة وتلعفر والرمادي على رؤوس ساكنيها، وكادت أن تزيحها من على الخريطة بالجملة والتفصيل.
وعلى هذا الأساس أيضا، فإن العصي الذي تبديه بغداد في السقوط (على الرغم من كونها تحت الاحتلال) إنما يتراءى للاحتلال إياه، من عصي بعض من أحيائها، سيما ذات الساكنة السنية، المعلنة جهارة عن رفضها للاحتلال، والحاملة للسلاح بوجهه... وبوضح النهار.
من التجاوز على الحقيقة حقا، ومن التضليل الإعلامي الخالص أيضا، القول بأن بناء الجدار من حول الأعظمية، إنما أتى لحمايتها ضد "شيعة المناطق المجاورة"، أو ضد "المتمردين". هو ادعاء لا يشبه في الشكل والمضمون، إلا الادعاء بأن سجن امرئ ما إنما هو من حمايته، وأن سلبه حريته، إنما هو من ضمان بقائه على قيد الحياة.
إن الجدار المقام حول حي الأعظمية ببغداد، لا يمكن قراءته إلا في ظل تكتيكات عسكرية لجأ لها احتلال، ضاقت به السبل والخطط، وضيقت عليه المقاومة، فعمد لمعاقبة الجماعة بجريرة إبن من أبنائها تحميه، أو تتعاطف مع قناعاته في مقارعة الاحتلال، أو تتماهى مع ما يقوم به، أو ما يعزم القيام به:
+ فالاحتلال الأمريكي سلك نفس المنهج أواسط ستينات القرن الماضي بالفيتنام (وفشل)، عندما أنشأ "قرى استراتيجية" عمد بموجبها، إلى تجميع الفلاحين والمزارعين بمعسكرات، محمية بالأسلاك الشائكة، والتحصينات الإسمنتية، وأبراج المراقبة ونقط التفتيش...ليقطع على المقاومة الفيتنامية (وهي مقاومة أرياف وبوادي بامتياز، عكس الكاظمية) سبل التواصل مع قاعدتها، التي كانت مكمن قوتها، وفضاء الاحتماء الذي كانت تلجأ له عندما تضيق بها السبل، أو لا تسعفها الظروف لبلوغ مصادر المياه والمؤن.
+ والاحتلال الاستيطاني الفرنسي، بجزائر الجزء الأول من القرن الماضي، أجبر السكان القرويين على التجمع بقرية من القرى، أحاطها بتحصينات مشددة، ولم يسمح بدخولها والخروج منها إلا من تثبت الاحتلال من هويته، بالبطاقة والصورة والبصمة، وعمد إلى قصف أي تجمع (حتى وإن كان محدودا) إن هو "تجمهر" من حول القرية، دونما إبداء لهويته.
هي الفلسفة ذاتها أعيد إنتاجها بمدينة الفلوجة بعد المعركة الثانية، وبمدينة تلعفر التي أحيطت بحاجز ترابي ضخم، وأسلاك شائكة، ورقابة مشددة على الدخول والخروج...ويعاد إنتاجها اليوم بالأعظمية (بإيحاء إسرائيلي قطعا)، بغرض عزل المقاومين، والحؤول دون "اختلاطهم" بالسكان، أو(يقول قائل) لعزل المقاومة جسديا عن بقية السكان.
إن الاحتلال الأمريكي لا يهدف، من وراء عزل الأعظمية، حماية ساكنتها ضد حملات فرق الموت، أو ميليشيات الحكومة والأحزاب. إنه يتغيأ إدراك ثلاثة أهداف جوهرية في إطار خطة (خطة بغداد الأمنية) باتت هي المحك الأخير للاستراتيجية الأمريكية الجديدة قبل أن تعلن الاستسلام بالعراق:
°- إنه يهدف، أولا، لاستمالة طائفة سنية ذاقت الأمرين منذ التاسع من أبريل من العام 2003، حينما قاطعت "العملية السياسية" ذات التركيبة الطائفية الصرفة، وجاهرت دون خجل بمقاومة الاحتلال، ولم تخف تعاطفها مع كل التنظيمات المقاومة، المجاهرة باستهدافها لجنود الاحتلال وثكناته ومصالح المدنية.
هي عملية مداهنة ناعمة، لجأ لها الاحتلال للادعاء بحماية السنة ضد طائفة شيعية، لم يترتب عن المراهنة عليها كبير فائدة بأرض الواقع.
°- وهو يستهدف ثانية (بالحقيقي المضمر) حصار المقاومة في أحد أوكارها الكبرى، حتى يكون بمقدوره قطع الإمدادات عنها، والحؤول دون دخولها الحي، أو الاحتماء بأهله.
الاحتلال يدرك جيدا أن ثمة تلاحم بين المقاومة وسكان الأعظمية لدرجة الاندغام، لكنه إذا لم ينجح في فك ذات التلاحم، فسينجح، بتصوره، على الأقل، في قطع أحد شرايينها المعتبرة.
°- وهو، بكل هذا وذاك، إنما يراهن على خلق القابلية على التقسيم (تقسيم البلد برمته)، ليس فقط بحصار كل حي أو مدينة أو قرية، ولكن باختيار الخادم ضمنها لمشروعه. هو هنا، إنما يريد التدليل على أن لا سبيل للتعايش بين أبناء الدين الواحد أو العرق المختلف، بالتالي وجب، باعتقاده، تقسيم البلد، وضمان الحماية "لأطرافه الهشة".
الاحتلال هنا، إنما يراهن على نجاح "نموذج" الأعظمية (وهو لن ينجح بالقطع، قياسا إلى فشله بالفلوجة وتلعفر وغيرهما)، ليتم له تعميمه، فيتحول العراق برمته نتيجة ذلك، إلى مجموعة كنتونات، مقطعة الأوصال، لا يتم ولوجها إلا بتصريح مسبق، أو بإذن من الحاكم المدني...أو من حاكم الإقليم مباشرة، إن تسنى لمشروع الفيديرالية أن يرى النور.
إن الذي يشي به جدار الأعظمية الطائفي، إنما فشل آخر طلقة من طلقات استراتيجية أمريكية، جعلت أقوى جيش بالعالم يخبط خبط عشواء، دون تقدير مسبق من قادته.
لا يجب إذن أن تنتابنا ذرة دهشة، إن هم دفعوه، وهو في أقصى درجات التذمر واليأس، إلى حرق الأخضر واليابس...تماما كالطبيب الذي يعمد إلى قتل مرضاه عندما يدركه اليأس من استحالة مداواتهم، أو لنقل تدقيقا، من استحالة قدرتهم على التجاوب مع الدواء...
* "عزل الأعظمية"، شبكة الرافدين، 30 أبريل 2007. التجديد العربي، 30 أبريل 2007. التحالف الوطني العراقي، 30 أبريل 2007. موقع انتخاب، 1 ماي 2007. جريدة التجديد، الرباط، 2 ماي 2007. موقع الكرامة، 3 ماي 2007. القدس العربي، 11 ماي 2007. وكالة الأخبار العراقية، 13 ماي 2007. مجلة المحرر، العدد 257، السنة 16، 2007. موقع القرناس، 15 ماي 2007. شبكة البصرة، 15 ماي 2007. موقع الكرامة، 15 ماي 2007. موقع المواطنة العراقية، 16 ماي 2007.