يتعامل المجتمع مع السوق باعتباره مكمن معادلة الإنتاج والاستهلاك، أي المؤتمن على ثنائية العرض والطلب في تحديد منسوب القيمة. لكن التفاعل هنا لا يجب أن يتجاوز على هذه النقطة أو يتفرع عنها، إذ للسوق مجال وللمجتمع مجال، حتى وإن كان لهما أن يتفاعلا ويتداخلا ويكمل بعضهما بعضا.
ولما كان للسوق نزوع مستمر بجهة توسيع فضائه، وفسح المجال لدورة رأسماله، فإنه لن يجد لأجل ذلك غير المجتمع بمنتجيه ومستهلكيه. فكان من آلياته الكبرى، إذكاء نعرة الاقتناء وفطرة الاستهلاك. الغاية هنا هي إدماج المجتمع، بقيمه وسلوكياته في منظومة السوق، ثم تحويل المجتمع إلى جزء من السوق لا يشتغل إلا وفق دورة رأس المال ومبدأ التراكم.
ولذلك، فإن تعبير "مجتمع السوق" إنما أتى للإشهاد على عملية إعادة صياغة المجتمع، في تقاليده وأنظمته وقيمه ومعتقداته وتصوراته وتمثلاته، في فضاء واحد وموحد يقوده السوق وتتحكم فيه منظومة واحدة "مقدسة"، هي منظومة السلعة.
وبما أن منطوق السوق هو منطوق السلعة، فإن الرهان "الجديد" هو تعميم هذا المنطوق، ثم استدماج المستويات الخارجة عن "طوعه" وضمنها المجتمع. لم يعد المرء مطالبا في ظل مجتمع السوق، باقتناء أساسياته وضرورياته، بل أضحى مطالبا أيضا باقتناء كماليات تحولت هي بدورها إلى ضروريات، ولو من باب التباهي والاكتناز.
وإذا كان من مهام اقتصاد السوق تنظيم إنتاج وتوزيع واستهلاك فائض القيمة، فإن مجتمع السوق هو طريقة في الحياة، حيث تتسرب القيم السوقية إلى كل جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية.
لنسق هنا بعض الأمثلة الكبرى عما أسميناه هنا بمجتمع السوق:
°- الأول ويتعلق بقطاعي التعليم والمعرفة. هي منطقة "حرام"، لأنها من مجال المجتمع، لكن السوق غزاها وعمد إلى إدغامها في صلبه. بالتالي، فإن المدرسة والجامعة وحاضنات الثقافة والمعرفة لم يعد من وظائفها تصريف قيم وتمثلات المجتمع، بل أضحت موجهة لتكوين أطر إدارية و"كفاءات تقنية" وموارد تدخل في دورة الإنتاج كما تلجه باقي الموارد الإنتاجية الأخرى.
°- المثال الثاني ويتعلق بالماء باعتباره ملكا مجتمعيا مشتركا، لا دخل للملكية، عامة كانت أو خاصة، في تدبيره. إلا أن اقتصاد السوق ثم مجتمع السوق، صادراه وحولاه إلى سلعة تباع وتشترى، لا بل ويتم "تقييمها" بانتظام بأسواق البورصات.
ما يصدق على الماء، يصدق قطعا على البيئة، بخصوص ما يسمى "حق التلويث". وهو "الحق" الذي يمنح الملوث بمقتضاه إمكانية اقتناء "حقوق التلويث" من بلدان فقيرة، متواضعة التصنيع، فيعوض بذلك تجاوزات "حصته الدولية في التلويث".
°- المثال الثالث ويتعلق بقطاع الصحة. الأمر هنا لا يتعلق بتسليع "الحق في التطبيب" وخوصصة الحق في الاستشفاء، بل يتعلق أيضا بنموذجين من السلوك كانا إلى حين عهد قريب، من صلب صلاحيات المجتمع: تسليع عملية التبرع بالدم، وإفراغها من البعد الإنساني والخيري الذي كان يلازمها لعهود طويلة مضت. فلم يعد التبرع قيمة سامية من صلب المجتمع، بل باتت وظيفة من وظائف السوق. ثم ظاهرة استئجار الأرحام، والتي يتم اللجوء بمقتضاها إلى "اقتناء مؤقت" لأرحام نساء فقيرات، لإحداث حمل مصطنع لأطفال يباعون "تحت الطلب" لمن تعذر عليهم الإنجاب.
إن مجتمع السوق هو استحواذ السوق على المجتمع، هو تحويل مناطق من صلبه إلى سلعة، واعتبار هذه الأخيرة مقياس التقييم الوحيد. أما ما يسميه المجتمع أخلاقا أو قيما أو حرمات، فهي بنظر عتاة مجتمع السوق، مستويات لا يعتد بها. إنها، بنظرهم، عقبات يجب إزاحتها، أو بأخف الظروف، تطويعها وتحييدها.
موقع عروبة 22، 22 أكتوبر 2023
https://ourouba22.com/article/1031-%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%82-%D9%88%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%88%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AF%D8%B3%D8%A9