تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"عدوى الانقلابات بإفريقيا"

انقلاب في النيجر وآخر في الغابون، سبقتهما انقلابات أخرى، ببلدان إفريقية أخرى. نكاد لا نعثر على دولة إفريقية واحدة، لم تعرف في تاريخها القصير انقلابا أو أكثر...العسكر هم الذين يثوون خلف هذه الانقلابات، لأن لهم القوة الباطشة لقلب أنظمة حكم يقال إنها جاءت بانتخابات شفافة وديموقراطية، وحملت إليها رؤساء مدنيين.

 إفريقيا هي نصيب فرنسا من تقسيم العالم في زمن ما، لكنها لم تترك خلفها، بعدما خرجت من هذه البلدان، لا شعوبا متناسقة الأجناس والأعراق، ولا دولا سوية، مكتملة الأركان. تركت بلدانا، لم تستطع استنبات مقومات دولة حديثة، بقوانين وتشريعات حديثة، وبمؤسسات تؤطر حياة الأفراد والجماعات. تركت حكاما موالين لها، أو حكاما لها عليهم وصاية أو حكاما حولوا السلطة إلى تسلط على خلفية من ادعاء بناء الدولة الوطنية، وتوطيد أسس بلدان خرجت لتوها من فترة الحماية والاستعمار.

بيد أنه بعد أكثر من نصف قرن على الاستقلالات، لم يبرز من أثر يذكر لا لبناء الإنسان ولا لبناء العمران. بمعظم بلدان إفريقيا، لم تخضع السلطة للتباري ولا لحكم الشعب، بل استندت على القوة الخشنة للاستمرار في الحكم ولسنين طويلة. فعم الفساد واستشرى الظلم ووزعت الثروة على هوى الحاكم...وهكذا.

يبدو، والحالة هاته، أن ما جرى بالنيجر والغابون، إنما يدخل في هذا السياق، سياق الانقلاب على حكام ولاؤهم لفرنسا أكثر من ولائهم لشعوبهم، وحمايتهم تأتي من فرنسا وليس من ارتباط شعوبهم بهم، نتيجة اختيار بالانتخابات أو ثقة ثابتة في إخلاصهم ونظافة أيديهم.

 ولذلك، عاينا كيف خرجت الجماهير في النيجر والغابون مثلا، لتأييد الجيش ومطالبته بوضع حد للوجود الفرنسي هناك. وعاينا أيضا كيف ذهبت فرنسا حد إدانة ما قام به الجيش في النيجر وفي الغابون، لأن الأمر أغضبها وتجاوز على وصايتها.

بلدان إفريقيا هي أكبر بلدان الدنيا تخلفا وهشاشة وتسلطا واستمرارا لأنظمة حكم فاسدة، مرتهنة للخارج، غير عابئة لا ببناء الإنسان ولا ببناء الأوطان. حتى الثروات الوطنية محتكرة وموزعة بناء على القرابة والولاء والمحسوبية والزبونية والرشوة. فيما نظم التربية والتعليم مهترئة، وخدمات الصحة متدنية ومتدهورة، وفرص الشغل شبه منعدمة، والبنى التحتية متردية وثروات البلدان مهدورة وهكذا.

هل معنى هذا أن الانقلابات العسكرية هي الحل؟ وما الذي يحول دون أن تكون البلدان التي تدينها، وضمنها فرنسا بكل تأكيد وباقي بلدان الاتحاد الأوروبي، وأميركا، هي من يثوي خلفها، لكن من تحت غطاء؟ من يضمن أن من قام بالانقلاب، لم يقم به من تلقاء ذاته، بل بترتيب مسبق، أو بإخبار أو بمطالب أن تبقى القوى الكبرى بمنأى عن العملية؟

أيا تكن المبررات، فإن الجيش لم يتحرك إلا بعد أن بدا له ألا أمل في المستقبل قادم، وألا بديل عن وضع حد لأنظمة لفظتها شعوبها بالجملة والتفصيل، وباتت عبئا عليها في الحاضر وفي المستقبل. الشعوب بدورها لم تخرج للشوارع ترحيبا بالانقلابات إلا لأنها تدرك ألا بديل عنها ولو إلى حين. لا يمكن بنظرها أن يكون العسكر أسوأ مما يعانوه في ظل نظم حكم مدنية، لكنها فاسدة.

بيد أن الحل لا يكمن في الانقلابات العسكرية، حتى وإن كانت مصدر إنقاذ مؤقت. الحل يكمن في الاحتكام لرأي الشعب بانتخابات لا يشوبها اختلال أو تزوير. لكن مع ضرورة ألا تتجاوز مدة انتداب الرئيس دورتين اثنتين على الأكثر. الأميركان أنفسهم لم يعدلوا الدستور كي يجاري رئيسا متسلطا أو يتماهى مع حاكم لا يؤمن بالتداول على السلطة. عندما تعتاد الجماهير على منظومة تداول السلطة، يهين أمر المحاسبة والعقاب.

نافذة "رأي في الشأن الجاري"

28 غشت 2023  

يمكنكم مشاركة هذا المقال