تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"عن التضخم كعقاب جماعي"

التضخم في الاقتصاد، ومن منظور السياسات الاقتصادية، هو مؤشر لقياس تفاصيل تطور الأسعار، ارتفاعا أو انخفاضا، لكنه في الآن ذاته أداة تستطيع الأسر بواسطتها أن تقيس تطور قدرتها الشرائية، ومدى قابليتها للاقتناء. هو بالتالي ليس مؤشرا مطلقا أو مستقلا بالإمكان تتبع تموجاته فصليا أو فيما بين الفصول. هو معطى نسبي بأكثر من زاوية، لا سيما عندما يقيس تمثل الأسر، أي المستهلكين، لقدرتها على الاستهلاك دون إكراه كبير. يتحول التضخم هنا من حالة معينة بالسوق إلى حالة نفسية، يلمسها المرء من سلوك الناس ومن أنماط تعاطيهم مع ما يعرض من سلع وخدمات.

المرجعية هنا تبنى على حالة السلع بالسوق، وتبنى بالآن ذاته، على مداخيل هذه الأسر، هل تواكب تطورات الأسعار، أم لا تستطيع المواكبة. التضخم بالتالي هو مؤشر اقتصادي واجتماعي، لكنه تمثل نفسي أيضا. لذلك، يتماهى التضخم عموما مع الغلاء، وتسمع الناس يقولون بأنهم "اكتووا بنار الأسعار". المستهلك في هذه الحالة، لا يحتكم إلى مؤشر مركب صادر عن البنك المركزي أو مؤسسات الإحصاء، بقدر ما يحتكم إلى ثمن السلعة في السوق. المواطن غير معني بتقديرات مؤشر يضم متوسط أسعار عشرات السلع. هو معني بما هو معروض أمامه وبقدرته على التعامل معه لسد حاجياته.

يقال في المغرب إن نسبة التضخم قد تجاوزت ال 8 بالمائة خلال السنة الماضية، وهذه نسبة مهولة، لا سيما أنها متأتية من تزايد أثمان أو أسعار المواد الغذائية بنسبة 15 بالمائة والنقل ب 12 بالمائة. ثم هي نسب مرتفعة للغاية قياسا إلى "زمن" لم يكن يصل التضخم خلالها إلى 2 إلى 3 بالمائة. هي أرقام مجردة وتقاس في المتوسط، لكنها تدمج أسعار السلع التي عرفت ارتفاعات كبيرة مع أسعار السلع التي لم يعرف متوسط الزيادة فيها إلا مقادير محدودة، فيكون المتوسط ضارا، غير مجدي للاستقراء وظالم لمنظومة الاستهلاك.

صحيح أن الحرب في أوكرانيا قد أدت إلى ارتفاع سعر المحروقات، فيما يخص الطاقة ومشتقاتها، وكذا تكلفة نقل السلع والخدمات، لكن اشتداد موجة الجفاف للعام الماضي ولهذه السنة، قد خلق، أو هكذا يقال، حالة من الخصاص في السوق الداخلي، لا سيما بالنسبة للسلع الاستهلاكية الأولى، من دقيق وقطاني وخضر وفواكه وحليب وما سواها.

وصحيح أيضا أن العديد من السلع المنتجة محليا تحتاج لمواد أولية تخضع لتكاليف سلاسل التوريد، فيكون من شأن ذلك أن يسهم في رفع أسعارها لدى الاستهلاك.

هناك بالتالي، عوامل خارجية ضاغطة وهناك إكراهات داخلية ضاغطة أيضا. وهو ما يؤدي إلى تراجع وتدني قدرة الأسر على الاقتناء، فتلجأ مضطرة للحلول البديلة، من قبيل الاقتراض مثلا. الاقتراض بات والحالة هذه، يمول الاستهلاك ولم يعد كما في الماضي، يمول التجهيز، وهذه خاصية تتعمق أكثر بتعمق الأزمة.

بيد أن ثمة جوانب في السياسة الاقتصادية أدت إلى تفاقم مستويات الأسعار. ولعل رفع الدولة ليدها عن صندوق المقاصة قد ترك المواطنين وجها لوجه مع السوق، بدون ضمانات وبدون حماية. ولنا أن نلاحظ ما وقع بقطاع المحروقات، وما يقع بباقي السلع التي خضع سوقها للتحرير. لا ألمح هنا إلى ظاهرة المضاربة فحسب، بل أيضا إلى انسحاب الدولة واستقالتها في جانب ضبط مستويات الأسعار، فبات السوق بالتالي خاضعا لزيادات على المزاج، قد تصل مستويات متقدمة في حالات التنسيق بين الفاعلين. قيل في الخطاب الرسمي، إن التحرير سيؤدي إلى المنافسة ثم إلى خفض في الأسعار. لم يثبت لحد الساعة أن الأمر كان كذلك في القطاعات التي خضعت للتحرير. بالعكس، ازداد منسوب ارتفاع الأسعار بها وبقوة.

ما الذي تقوم به الدولة للتخفيف من حدة التضخم؟...لا شيء تقريبا، اللهم إلا ما قدمته وتقدمه للوبيات أرباب النقل. بهذه الجزئية، لست أدري بأي وجه حق يقدم الدعم لهؤلاء، مع العلم أن من مسوغات الزيادة في الأسعار التي يدفع بها البعض، ارتفاع كلفة النقل. لاحظنا بالعديد من البلدان الأوروبية أن الدولة صرفت تعويضات للفئات الهشة، وخففت العديد من الأعباء الاجتماعية على المتضررين. إلا أننا لم نعاين شيئا من ذلك بالمغرب. الأسر باتت تواجه مصيرها وجها لوجه مع السوق وجشع الفاعلين. يبدو الأمر كما لو أن ثمة نية لمعاقبة الناس أجمعين، لا سيما وأن مستويات الأسعار ارتفعت فجأة ودون سابق إنذار.

ما يزيد من معاناة المواطنين، هو جنوح الدولة المتسارع بالأشهر الماضية، بجهة تقديم التصدير على حساب اعتبارات الاكتفاء الذاتي. إذ تزايد حجم التصدير للاتحاد الأوروبي، من المنتجات الغذائية (خضراوات وفواكه) بنسبة مرتفعة، لدرجة أدت إلى تهاوي أسعارها بإسبانيا مثلا، وعدم قدرة الفلاحين هناك على المواكبة. وهذا يعني أن الأسواق الأوربية "مغرقة" بالمنتوجات المغربية، فيما السوق الداخلي يئن تحت وطأة الندرة ومضاربات الفلاحين والتجار الكبار.

الآفة الأخرى، هو أن ما يفيض على التصدير باتجاه الاتحاد الأوروبي، فإنه يذهب لأسواق إفريقيا جنوب الصحراء. وهو ما يعني، في الحالتين معا، أن جزءا كبيرا من التضخم الذي نعيش هو نتاج خيارات اقتصادية وسياسية محددة ومفكر فيها. بالتالي، فمبررات الجفاف أو ارتفاع كلفة النقل أو الحرب في أوكرانيا، والتي غالبا ما تقدم، إنما هي بغرض التبرير وإخفاء الحقائق عن الناس. إنها مظهر من مظاهر الفشل البنيوي في سياسات اقتصادبة لم تراهن يوما على الاكتفاء الذاتي، بقدر ما انساقت مع المشاريع الموجهة للتصدير، بدليل ارتهان المغرب الأخضر، ومنذ اليوم الأول، لخيار التصدير...التصدير أولا وأخيرا...

نافذة "رأي في الشأن الجاري"

13 فبراير 2023

يمكنكم مشاركة هذا المقال