قدمت ما اعتيد على تسميتها تجاوزا بفرق الأغلبية بالبرلمان، مقترح قانون "بتغيير وتتميم القانون رقم 13-90"، المحدث للمجلس الوطني للصحافة.
لا فكرة لدينا عن أسباب نزول هذا المقترح حقا، إذ على الرغم من كون المجلس الحالي قد استوفى مدته القانونية، وتم التمديد له عمليا، بغاية الترتيب لانتخابات جديدة أواسط السنة الجارية، فإنه لم يطرأ ما يستوجب إخراج القانون من جديد، والاشتغال عليه بالإضافة أو بالنقصان، بالتغيير أو بالتتميم.
بيد أن التوقف عند مقترح القانون، وقد وقعت على مسودته معظم الفرق النيابية وكاد أن يعتمد، يبين بجلاء أن الغاية من المقترح إنما إضافة نقطتين جوهريتين للنص "القديم"، بناء على حسابات واجتهادات لم تقبل بها الأمانة العامة للحكومة، فأرجعت المسودة واضطرت الفرق البرلمانية تبعا لذلك، إلى سحب المشروع بالجملة والتفصيل:
°- النقطة الأولى وتتعلق بإدراج المجلس ضمن المؤسسات الاستراتيجية التي يتم البث فيها بمداولات المجلس الوزاري، ويكون التعيين المباشر فيها من الاختصاصات الحصرية لرئيس الدولة. كان المجلس سيصبح تلقائيا وضمنيا، لو اعتمد مقترح القانون، ضمن مجالس الحكامة التي تؤطر بظهائر، بعدما يتم اختيار الرئيس أو الأمين العام أو هما معا.
°- النقطة الثانية وترتبط بتنصيص مقترح القانون على منح المجلس، حق ترصد ومراقبة وتتبع المنشورات الرائجة أو المروجة على منصات التواصل الاجتماعي.
عندما ندقق مليا في هاتين النقطتين، يبدو أن ثمة قطعا نية مؤكدة لتحويل المجلس إلى مؤسسة حكامة، شأنها في ذلك شأن باقي المؤسسات التي نص عليها الدستور جهارة. ويبدو أيضا أن إضافة صلاحية جديدة (رقابة المنصات الاجتماعية) إنما تتغيأ منح المجلس إياه صلاحيات واسعة لمراقبة ما ينشر بشبكات التواصل الاجتماعي، وما يقدم بها من مكتوب ومصور ومرئي وما سواها.
من المثير للدهشة حقا أن يجهل نواب الأمة ألا سبيل لإنشاء مؤسسة حكامة إلا بتعديل دستوري، لا يمكنه أن يقوم أو يستقيم إلا باستفتاء عام أو بأغلبية بالبرلمان مستحيلة المنال. ومن المثير للدهشة أيضا أنهم لم يتريثوا على الأقل حتى يتأكدوا من تجاوب رئيس الدولة مع المقترح. ومن المثير للدهشة فضلا عن ذلك، أنه لو تسنى للنواب إياهم اعتماد ذات المقترح، فإن ثمة احتمال قوي بأن المحكمة الدستورية لن تجيزه، وستذهب بالتأكيد بجهة ما أدفع به أعلاه وتسقطه.
المجلس تنظيم مهني خالص، لا خاصية جوهرية تميزه عما سواه من تنظيمات حتى يفرد له الاستثناء، ويصبح مستوى حكامة قائم الذات. هو هيئة قطاعية، تشتغل وفق قانون تم وضعه، وبناء على ترتيبات داخلية ارتضاها المهنيون لتنظيم قطاعهم، تماما كحال الصيادلة والأطباء والمهندسين والخبراء المحاسباتيين وما سواهم.
يقال إن الحكمة من ذلك هو حماية رئيس المجلس من ابتزاز "الجسم المهني الناخب"، وجعله في منأى عن التجاذبات التي قد تضغط عليه ليتبنى هذا التوجه أو ذاك. لكن هذا الرأي لا يستقيم لأن الرئيس يمثل المهنة وفاعليها ولا يمثل جهة التعيين، حتى وإن كانت بظهير صادر عن رئيس الدولة.
مقترح القانون لم يراع كل هذه الجزئيات وراهن أصحابه على تمريره على الرغم من العيب الدستوري الصارخ الذي يطبعه. إذا كان النواب يجهلون هذه الجوانب، فتلك مصيبة كبرى، وإذا كانوا يتجاهلونه لترتيبات خفية ومضمرة، فتلك كبرى المصائب.
أما مسألة تنصيص المقترح على منح المجلس صلاحيات رصد وتتبع مضامين الشبكات الاجتماعية، فهذا طرح معيب لا من ناحية المنهج فحسب، بل أيضا من زاوية التبعات، لا سيما لو علمنا أن 20 مادة من أصل 40 في مقترح القانون، هي ذات طابع تأديبي وتصب في باب العقوبات.
يعتبر المقترح في تصوره، أن كل ما يروج بالشبكات الاجتماعية هو منتوج صحفي، وجب إخضاعه لقوانين المهنة وأخلاقياتها. وهذا تصور يجانب الصواب، إذ الشبكات الرقمية ليست شبكات إعلام، وأن الملايين الذين يرتادون هذه الشبكات لا علاقة لهم بالصحافة، ولا يدعون أنهم أصحاب تمرس في الميدان. إنهم بالكاد منتجو معلومات ومعطيات خام، لا تخضع لا للتدقيق ولا تصاغ في القوالب الصحفية المعهودة.
هذا تصور لا يمكنه أن يستقيم في شبكات تفتح لكل من لديه هاتفا محمولا أو حاسوبا بسيطا، سبل أن يدون أو ينشر مقاطع فيديو أو يتبادل معطيات أو يتقاسم مضامين، لا يمكن أن تصنف ضمن مجال الصحافة، وإلا فسيصبح كل مرتاد ولو بالاستحسان أو التقاسم، صحفيا رغما عنه وبالإكراه.
صحيح أن ثمة مواقع ألكترونية ذات طابع تجاري، توظف الشبكات لأغراض ربحية. وصحيح أن العديد من المواقع تشتغل في إطار شركات بسجل تجاري وعنوان ومستويات تسيير. قد نسلم جدلا بوظيفتها الإعلامية، لكن الحامل هنا لا يكفي كي نصنف هذه المواقع ضمن المجال الصحفي، فما بالك لو كان إنتاج المعلومة وتوزيعها خارجا عن هذا النطاق بالجملة والتفصيل.
يبدو جانب الردة واضحا في النقطتين معا. إذ الاحتكام للتعيين عوض الانتخاب هو انتكاسة حقيقية في بنيان الديموقراطية التمثيلية، وإلا فكيف لرئيس معين من جهة خارجية عن الميدان، أن يجاري تموجات ما يجري بالحقل. سيكون جهة تابعة حتما وليست جهة مستقلة، كما هو الشأن في التنظيمات القطاعية المختلفة. وسيكون ولاؤه للجهة التي انتدبته، وليس للجهة التي من المفروض أن يمثلها، تراقبه وتحاسبه، ولها الحق الحصري في استبعاده إذا انتهت عهدته، أو برز من تدبيره ما يجيز استبداله.
أما تمطيط مجال اختصاص المجلس ليطال مضامين الشبكات الاجتماعية، فإنما يضمر نزوعات تحكمية من شأنها أن تضر بحرية التعبير التي كفلها الدستور، وتدخل المجلس إياه في متاهات لا قبل له بها، ولا يستطيع بكل الأحوال، مجاراتها.
المجلس مطالب بضمان الحق في الولوج لمهنة الصحافة كما هو متعارف عليه. ومطالب بالدفاع عن أخلاقياتها. ومطالب بضبط الاختلالات التي تعتورها. أما من يقوم على تنظيم مجال الشبكات الاجتماعية، فذاك حديث آخر لا يعني المجلس لا في صيغته الحالية، ولا يجب أن يعنيه حتى وإن خضع قانونه مستقبلا للتغيير أو للتتميم.
نافذة "رأي في الشأن الجاري"
06 فبراير 2023