لا أستسيغ لماذا لا نريد أن نتعامل مع قرار البرلمان الأوروبي باعتباره إدانة للمغرب بخصوص حرية التعبير وحقوق الإنسان. هو على أية حال، ليس تقدير موقف ولا هو بتقرير موقع. هو تسجيل واقع، تم البناء عليه للخلوص بأن ثمة انتكاسات في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير بالمغرب، لا يمكنها برأي منطوق القرار، أن تستمر في ظل شراكة تتضمن واجبات، لكنها تشترط التزامات، من هذا الطرف كما من ذاك.
ليس مهما أن نتوقف من جديد عند أسباب نزول هذا القرار، ولا السياق الذي اعتمل فيه، ولا الخلفيات التي حكمته، ولا الحسابات التي أذكته. هذا من باب التأطير المنهجي، الذي قد يقدم بعض عناصر الفهم، لكنه لا يستطيع أن يبني الصورة في شموليتها.
القول بأنه قرار لا يحترم سيادة البلد ولا استقلالية قراره، هو قول يدخل في نطاق رد الفعل الذي قد يتفهمه المرء، لكنه لا يستطيع أن يدفع به للرد على "تهم" تحتاج لرد مباشر، يمسك بصلب السؤال، ولا يكتفي باستقراء حواشيه أو هوامشه.
أما الادعاء بالقدرة على الرد بالمثل كما ذهب إلى ذلك بيان مجلس النواب، فإن الرد إياه لا يمكنه أن يفيد، ولا يمكنه أن يصب في جوهر الإشكال، إلا إذا كان من نفس الطبيعة وبنفس الأدوات.
لنصرف النظر عن القرار ونتساءل: هل يمكن الحديث عن حرية للإعلام بالمغرب؟ هذا سؤال أجاب عليه القرار باستحضار حالات محددة وقائمة، لكنها تبقى على الرغم من ذلك، جزئية واختزالية لحقل تم تجريفه بالكامل، بالجملة والتفصيل، حتى بتنا بإزاء رأي واحد، لا يستطيع المرء التجاوز عليه أو "التغريد من خارجه"، فما بالك التصدي له في الحد الأدنى.
ثمة حالتان تخصان هذا الجانب، طرأتا في أعقاب قرار الاتحاد الأوروبي، ويبدو أنهما ستضيقان أكثر من هامش الحركة في مجال الحريات الإعلامية خصوصا، وحرية التعبير بوجه عام:
°- الأولى وتتعلق بالانتكاسة التي عرفها القانون المنظم للمجلس الوطني للصحافة. الثابت أن المجلس هو هيئة تنظيمية وليست مؤسسة حكامة، منصوص عليها في الدستور. كان أعضاؤها وضمنهم الرئيس، ينتخبون من طرف الجسم الصحفي نفسه لمدة ما، فيقومون بمهامهم بناء على توافقات ارتضوها لتنظيم القطاع، والحفاظ على مقومات أخلاقيات المهنة الذي اعتمدوه. هو تنظيم قطاعي كما حال الصيادلة والمهندسين والأطباء وغيرهم.
بالقانون الجديد، سيتم تعويض الانتخاب بالانتداب، مع جعل تعيين رئيس المجلس من صلاحيات رئيس الدولة، أي إن التعيين سيكون بظهير يجعل الرئيس إياه في حل من أية مساءلة مبدئية، وسيجعله بعيدا عن أن يكون تحت رحمة هذا الصوت الانتخابي أو ذاك. هذه ردة حقيقية في المجال لا يمكن أن يقبل بها عاقل، فما بالك لو كان ممارسا للمهنة الإعلامية، وإلا فما معنى أن نتنازل عن مكسب (مكسب الانتخاب) بالعودة إلى عهود يعين بموجبها الشخص، فيبقى بالموقع سنين عدة قد تصل حد العقود، وفي الكثير من الأحيان تجاوزا للمدة التي يكون ظهير التعيين نفسه قد حددها ونص عليها جهارة.
لا ينحصر الأمر عند هذه الجزئية، بل يذهب حد إعطاء المجلس حق مراقبة مضامين الشبكات الاجتماعية، مع منحه صلاحيات زجرية وتأديبية مباشرة. لا ندري وفق أية فلسفة وانطلاقا من أي اجتهاد، ستدرج تدوينات "العامة" منا أو حساباتنا على اليوتوب، ضمن مجال الإعلام حتى يكون من صلاحيات المجلس مطاردة أصحابها، ثم تغريمهم، ولربما أيضا الأمر بإغلاق صفحاتهم وحساباتهم. سنصبح جميعا إعلاميين بحكم الأمر الواقع، وسيسري علينا، إن صدق الأمر، ما يسري على الإعلاميين بالتكوين والبطاقة.
°- أما الحالة الثانية فتتعلق بمحاصرة كل من أبدى رأيا مخالفا لمنحى التنديد الذي انبرى له الكل، بالإعلام الرسمي، كما بالمحطات الإذاعية الخاصة كما بالمنابر على الشبكات الرقمية. يشعر المرء كما لو أنه مطالب بالاصطفاف خلف الأطروحة الرسمية، بإدراك من لدنه أو من باب الاندفاع خلف حملة التجييش الفج التي تم إطلاقها، فأريد لها أن تجرف في طريقها كل صوت ممانع أو مناقش أو منتقد. هذا شكل من أشكال التعسف الذي لا يمكن أن يستقيم في زمن انفتحت فيه السماوات، وباتت المعلومات تتجاوز الدول والحدود.
في المطلب الثاني، يتحدث القرار عن القضاء، ويعتبر أن العديد ممن طالتهم أحكامه لم ينعموا بمحاكمة عادلة. وهذه ملاحظة نسمعها، لكننا لا نملك أدوات إثباتها بكل الحالات. بيد أننا لا يمكن أن نسلم باستقلالية ما للقضاء عن باقي المستويات، لا سيما السياسية والمرتبطة بعالم المال والأعمال، حيث يشتكي البعض تحيز القضاء وجنوحه بجهة تعميق الضيم الذي قد يمس المتقاضين.
هناك قضاة فاسدون. وقد أتت وسائل الإعلام على ذكر العديد ممن كانوا خلف حالات فساد كبرى، بالارتشاء أو بالتواطؤ، أو بإصدار أحكام بسند غير كافي. وهناك قضاة نزهاء، لا يستطيع المرء أن يشير إليهم بالأصبع. لكن الناس لا يثقون في القضاء عموما، وهذا باعتراف تقرير النموذج التنموي الجديد نفسه. إنهم يشكون منه فيما بينهم، ويشعرون أنه أبعد من أن ينصفهم عندما يلجأون إليه أو يحتموا بمظلته.
لا أتحدث هنا عن مؤسسة القضاء في مفهومها الضيق. أتحدث عن منظومة العدالة بوجه عام. لا يقتصر الأمر على المواطنين المتقاضين أو المحتكمين لسلطة القضاء، بل يتعداهم ليطال مشاريع المستثمرين الذين لا ضمانات لديهم تؤمن مشاريعهم، أو تفتح لهم باب المنافسة، في سوق بات الكل يعلم أنه ملغم ومحصور.
ولذلك، فسواء قسنا المسألة من زاوية حرية التعبير وحقوق الإنسان، أو من زاوية وضع منظومة العدالة، فإن النتيجة هي هي، لا تتغير: ثمة شيء خطأ يجب إصلاحه...والإسراع في إصلاحه. حينها لن نرد، ونحن لا نملك عناصر الرد. بل لن يشير إلينا أحد حتى نضطر للرد أصلا.