يرى الخبير المغربي في الإعلام والاتصال الدكتور يحيى اليحياوي، في حوار خص به “كيوبوست”، أن المنصات الرقمية صارت تتجاوز حتى “الدولة القومية” نفسها، وأنها باتت تمتلك سلطات جديدة دون رادع، سماها بـ”الديكتاتوريات الافتراضية الجديدة".
وأبرز اليحياوي، الأستاذ المحاضر في جامعات ومعاهد عليا في المغرب وخارجه، والحاصل على جائزة المغرب الكبرى للكتاب عامَي 1996 و2021، أن الشبكات الاجتماعية تعتبر فضاء مفتوحاً ومتعدداً، لا يمكن ضبطه عبر أخلاقيات مهنة كما هي حال الإعلام التقليدي.
وبخصوص التطرف وخطاب الكراهية في مواقع التواصل الاجتماعي، أفاد الخبير المعروف أن “هناك دعاة مطرودين في الواقع يجدون في الشبكات ملجأ ناجعاً لترويج خطابهم المتطرف”، مورداً أن “المثقف العربي لا يدرك رهانات هذه الشبكات؛ فاستقال من الوجود فيها، ليملأ الداعية هذا الفراغ ويحقق (انتصاراً) على المثقف.
في ما يلي نص الحوار مع الدكتور يحيى اليحياوي:
تطرقت في كتاب جديد لك بعنوان “اقتصاد المنصات الرقمية: امتصاص القيمة، سلطة السوق والمشترك التقاسمي”، باللغة الفرنسية، إلى موضوع امتصاص هذه المنصات للقيمة، واستغلالها دون إنتاجها. أولاً ليفهم القارئ العربي “البسيط” غير المتخصص ماذا تقصد إجمالاً باقتصاد المنصات الرقمية؟
هناك مجموعة مداخل لتحديد معنى المنصة الرقمية، مداخل تكنولوجية وصناعية وتجارية وغيرها. بيد أنها مع ذلك تتقاطع لتعطينا ما يمكن أن نسميه بنموذج في الاشتغال قائم على استخدام التكنولوجيا بين العديد من المتدخلين، منتجين ومستهلكين، يتبادلون المعطيات الرقمية بغرض إنتاج فائض في القيمة. المادة الأولية لهذه المنصات هي المعطيات الرقمية، التي يتم تجميعها من خلال تفاعل هؤلاء المتدخلين، مباشرة أو من خلال ما يتركوا من أثر عند إبحارهم في الإنترنيت أو ما يعبرون عنه، صوتا أو كلمة أو صورة، بهذه المنصات أو بالشبكات الرقمية عموما.
كتاب "اقتصاد المنصات: امتصاص القيمة، سلطة السوق والمشترك التقاسمي"، هو الكتاب الثاني من خمسة كتب بالفرنسية أفردتها "للظاهرة الرقمية"، كان أولها عن "بيئة المعطيات الرقمية"، وثالثها عن "المشترك الرقمي"، ورابعها عن "الدولة/المنصة" وخامسها عن "الرقمنة والتنمية" الذي صدر من أسبوع فقط...وهي كما تلاحظ، خماسية حاولت أن أتتبع من خلالها تموجات الرقمنة وتقاطعاتها مع حقول اقتصادية ومؤسساتية واجتماعية شتى. في كتاب "اقتصاد المنصات الرقمية"، وهو الامتداد الطبيعي للكتاب الأول عن "بيئة المعطيات الرقمية"، حاولت أن أرصد هذه المنصات من وجهة نظر اقتصادية ، أي كيف تنتج المعطيات، كيف تخزن، كيف تعالج وتعاد معالجتها، كيف توزع وكيف تستهلك.
هذه المنصات لا تنتج المعطيات. تقدم البنية التحتية الناعمة كي تتجلى، ثم تلتقطها وتقوم على معالجتها ببرامجها المعلوماتية، وتعمل من خلال الخوارزميات الدقيقة التي تتوفر عليها، على تحديد مواصفات المبحرين لتبيعهم أو تعيد بيعهم للمعلنين. المبحر هنا هو السلعة. معطياته هي التي يتم بالبناء عليها، ضبط هذه المواصفات كي تتساوق مع سياساتها التجارية. المنصات هنا تعمل على تقييم معطيات ليست ملكها، لكنها بتقنية المجاني، تعطي الانطباع للمواطن المبحر كما لو أنه هو صاحبها. هي تقوم إذن على امتصاص القيمة المتأتية من بيع المعطيات، دون أن تكلف نفسها عناء البحث عنها أو اقتنائها من جهة ما. ولذلك، فأنا بهذا الكتاب إنما نبهت إلى أن المنصات هي هنا وسيط، لكنه وسيط "يلهف" كل القيمة.
كيف يمكن تفسير أن هذه المنصات الرقمية تمتص وتستغل “القيمة” ولا تنتجها؟
عبارة "تمتص" لها مدلول دقيق هنا. المنصات الرقمية لا تنتج المعطيات. إنها تقوم بتجميعها فقط، من خلال البنية التي تقيمها أو من خلال بنوك معطيات رسمية أو شبه رسمية، إن استطاعت النفاذ إليها. بعد التجميع، تقوم بتحديد مواصفات أصحابها، ثم تقوم ببيعها للمشهرين. العملية تتم بين المنصة والمشهر، في غفلة من المواطن/المبحر.
المستجد في الأمر هنا هو دور الخوارزميات. هي التي تمكن المنصات من تحديد مواصفات المستهدفين الذين يدلون بمعطياتهم. هم لا يدلون بها عن طيب خاطر، بل يجدون أنفسهم مضطرين لذلك للاشتراك في هذه المنصة أو تلك. ولك أن تلاحظ دقة المعطيات التي تطلبها هذه المنصة أو تلك، لتنضم إليها. ثم هي تقوم باقتفاء أثر كل مبحر، بجهة المواد أو الصور أو الفيديوهات التي يتابع، فيكون لها بالمحصلة النهائية صورة كاملة عن الشخص، في نفسيته وتطلعاته وطموحاته ورغباته وقدرته على الاقتناء. يتم تجميع الكل وبيعها للمعلنين. امتصاص القيمة يكمن في هذا الجانب. وقد فصلت في كيفيته وطرقه وأنماط تثمينه في الكتاب الأول والثاني.
لنتحدث عن مواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الراهن.. يقول البعض إنها باتت تمتلك سلطة تفوق سلطة “الإعلام التقليدي” وربما حتى “سلطة السياسة”.. هل توافق هذا الطرح؟
لست من الذين يدفعون بطرح أن الإعلام الجديد، إعلام المنصات والمواقع الاجتماعية، قد "أخذ مكان" الإعلام التقليدي. هو هز أركانه دون شك، لكنه لم يركنه إلى الجانب، بدليل أن الصحافة والتلفزيون والإذاعة لا تزال قائمة ولا يزال لها روادها. الجديد هو النموذج الاقتصادي الذي بات يحكم هذا ويحكم ذاك. وهو ما يجعل الصحافة التقليدية مثلا تلجأ لمواقع التواصل الاجتماعي لاقتناء معطياتها، أو تخلق لها مواقع لترويج صيغ رقمية لما هو متوافر لديها من مواد أو صور أو فيديوهات.
بارتباط مع سؤالك، أظن أن وسائل الإعلام الجديدة، وخصوصا المواقع الاجتماعية، قد وسعت من مجالات التعبير، إذ بات الكل منتجا للمعطى بعدما كان مجرد مستهلك. ثم إنها مكنت من "إعلام قرب" حقيقي، إذ باتت الأخبار تأتينا عن الواسع العام وتأتينا أيضا عن المناطق البعيدة المهمشة، وهذا لم يكن متاحا من قبل. ثم إنها أسهمت في تجاوز رتابة صحافة الأحزاب والتنظيمات الفئوية، التي كانت لا تقدم إلا ما يصب لفائدة "المنظومة".
لا شك أن لمواقع الشبكات الاجتماعية سلطة، لكنها لا تبرز إلا ما يأخذ برأي أصحابها. فكم من فضيحة تم الحديث عنها وتم الاعتداد بمعلوماتها، وكم من فضائح تم تسريبها عن هذه المواقع ولم تجد آذانا صاغية. هي بوجه من الوجوه "فاعل سياسي"، مادام الشأن العام هو جزء من اهتماماتها. لكن عيبها أنها ليست تنظيمات سياسية قائمة، وتبقى بالتالي بحاجة إلى وسيط سياسي ليوصل رسالتها.
برأيك كيف يمكن “ترشيد” الشبكات الاجتماعية هذه حتى لا يقع هناك “شطط” وانحراف في استعمال هذه السلطة الافتراضية؟
الشبكات الاجتماعية فضاء مفتوح. كل من لديه هاتف نقال أو كاميرا أو حاسوب بإمكانه أن يعبر عن رأيه، بالكلمة أو بالصوت أو بالصورة أو بها مجتمعة. ليس ثمة مجال هنا للحدث عن أخلاقيات مهنة كما حال الإعلام التقليدي. حتى مسألة التنظيم الذاتي مستبعدة هنا. ثم إن مبدأ المسؤولية متعذر التطبيق، لأن المرء لا يستطيع أن يحدد بالتدقيق الجهة المفروض زجرها. هناك قوانين وتشريعات وطنية ودولية، لكن من المتعذر أن تضبط تموجات شبكات تخضع لتحولات منتظمة كبرى. المنصات الرقمية نفسها تجاوزت الأطر التقليدية، وباتت تتجاوز الكل، بما فيها الدولة القومية نفسها. عندما تجد منصة تويتر تذهب لحد حجب حساب الرئيس الأميركي الأسبق، فاعلم أننا بتنا وجها لوجه مع "سلطات جديدة"، لا رادع لها. إننا نعيش في ظل يكتاتوريات افتراضية جديدة، لم يستطع أحد ردعها لحد الساعة.
من أوجه شطط “الشبكات الاجتماعية” استخدام أفراد أو حتى جماعات متطرفة هذه الوسائط الجديدة لبث ثقافة الكراهية والتشدد، وحتى التجنيد وطلب تمويل أنشطة وأعمال إرهابية.. كيف تنظر إلى ما باتت تفرزه الشبكات الاجتماعية من تناسل خطاب الكراهية والتطرف الديني عبر العالم؟
الشبكات بقدر ما تعكس خطاب الكراهية والتطرف بقدر ما تفرزه أيضا. العديد من خطابات التطرف التي نعاينها بالواقع نجد لها صدى بالشبكات. العملية هنا تكمن في توظيف مستجد تكنولوجي قوي لترويج خطاب قائم وجاري في الواقع. بالآن ذاته، فالشبكات الاجتماعية تفرز خطابا للكراهية والتشدد من داخلها. مكمن الخطر هنا هو القوة الخارقة التي تطال مستوى الترويج...إذ تجد بعض الصفحات المتطرفة لبعض الدعاة، على الفايسبوك أو تويتر ترتادها الملايين. الدعاة المطاردين بأرض الواقع، يجدون في الشبكات ملجأ ناجعا لترويج خطابهم بهذا الشكل أو ذاك.
صحيح أن العديد من المنصات الرقمية مثلا باتت تعمل، من تلقاء نفسها أو نتيجة ملاحظات من الدول، على حجب مواقع التطرف والعنف والتشدد والأخبار الزائفة، لكن هذه المواقع تتكاثر كالفطر، ولا يستطيع المرء معاينتها بدقة فما بالك محاربتها. أنا أشتغل في مشروع عن الأخبار الكاذبة بالشبكات الرقمية، وأجد صعوبة في تتبع كيف ينشأ الخبر الكاذب وكيف يجول وكيف يصل، لربما بصيغة أقوى من الخبر اليقين والحقيقي.
هناك محاولات حثيثة لمحاربة التطرف العنيف عبر الإنترنت.. وهذا ربما يحتاج إلى ما يمكن تسميته تمنيع وتحصين الشباب بالخصوص على الإنترنت.. برأيك ما أبرز ركائز هذا التمنيع؟ كيف يمكن تقوية الشباب على التمييز بين الغث والسمين في شبكات التواصل، وعدم الانجرار وراء خطاب الكراهية والتطرف الديني؟
هذا سؤال مهم، لكنه معقد وشاسع. إذ من الصعب حقا أن تحصن ناشئة تقضي جزءا كبيرا من وقتها مع هاتفها النقال، لمتابعة مواقع قد تكون غير ذات قيمة، أو مضيعة للوقت أو مضللة أو تراهن على سلب هذه الناشئة وسلخها عن مرجعيتها. ثم إن رواج خطاب التطرف قد يدفع بالعديد إلى تصديقه، ولربما إلى السير في طريقه. وقد لاحظنا ذلك في حالة سوريا، حيث تم تجنيد شباب من خلال الشبكات الاجتماعية.
أرى أن المدخل القمين بالحد من هذا الخطاب هو المراهنة على المدرسة وعلى الإعلام الجاد. يجب المراهنة على التربية على الإعلام برافديه، التقليدي وما يسمى بالجديد. يجب أيضا المراهنة على تكريس القيم الأخلاقية من بين ظهراني الشبكات. ويجب الرفع من منسوب الوعي، لحث الناشئة على توظيف هذه الشبكات في تبادل المعلومات والمعارف، والتعارف أيضا، عوض تركها فريسة للمواقع والمنصات الرقمية.
قد يكون للحكومة دور، وللفقهاء وعلماء الدين دور، وللمدرسة دور في تحصين الشباب من التطرف الرقمي.. لكن ما دور المثقف في هذا الصدد؟
جزء كبير من المثقفين لا يدركون رهانات هذه الشبكات، فينساقون أيضا مع العامة. قليلة هي صفحات المثقفين العرب مثلا على الفايسبوك أو التويتر، وإن وجدتها، فهي لا تضم إلا بعض الانطباعات والصور في المناسبات. المثقف العربي لم يلج الشبكات الرقمية بعد. إنه يحتاط منها، ويعتبرها "شبكة عوام" لا تستحق أن يرتادها المرء أو يكتب على منصاتها. ثم إن العديد من المثقفين لا يتوفرون على مواقع شخصية بالإنترنيت يضعوا بها مقالاتهم ونسخ أو مقتطفات من كتبهم. أما الدعاة، فهم موجودون، لأنهم يدركون أن التواجد بالشبكة أنجع وأقوى وأكثر حرية. بهذه النقطة أيضا، نلاحظ أن الداعية انتصر على المثقف.
في الانترنت ليس هناك تطرف رقمي فقط ..هناك أيضا تطرف من نوع آخر..هو التفاهة التي باتت صناعة قائمة الذات..ما حدود مسؤولية الدولة والمجتمع في محاربة التفاهة المنتشرة عبر الانترنت؟
لا تستطيع أن تحارب التفاهة إلا بمحاربة التافهين. والشبكات الرقمية تعج بهم، ألوانا وأشكالا. البعض يغتر بنسب المتابعة أو بمنسوب من يضع استحسانا على مادة له بصفحته، تماما كما يغتر مغني تافه بملايين المتابعين له بصفحته على اليوتوب. محاربة التفاهة تبدأ هنا أيضا من المدرسة ومن المراهنة على الوعي النقدي. لا يمكن أن تحارب مضمونا تافها إلا بتطوير مضمون جاد. يبقى السؤال، من ذا الذي من شأنه أو من "صلاحياته" أن يطور هذا المنتوج الجاد.
للاستئناس، موقعي على الشبكة:
صفحتي على الفايسبوك:
https://www.facebook.com/yahya.elyahyaoui.7
كيوبوست، 3 يناير 2023، أجرى الحوار: حسن الأشرف).