كرة القدم ليست فقط لعبة شعبية تجر خلفها عشق الملايين من كل أرجاء العالم. إنها بالآن نفسه، تشغل الملايين من البشر وتذر مداخيل معتبرة على ميزانيات الدول، دع عنك ما يصرف على بنياتها التحتية الضخمة وعلى الأعتدة اللوجيستية المصاحبة لها، وما يرصد لجوانب التكوين والتأطير وأجور العاملين. إنها اقتصاد مكتمل الأركان، حتى وإن لم تستطع أدوات المحاسبة العمومية ضبط كل مدخلاته ومخرجاته.
ثم هي باتت عنصرا من عناصر العلاقات الدولية. تلعب الفرق الوطنية في المونديال مثلا، فيبدو الأمر كما لو أن هذه الدولة تبارز تلك، أو كما لو أن لهذه ثأر مع تلك، لا سبيل لتسديده إلا بردهات الملاعب وأمام الملايين من البشر. تثار الحزازات هنا، ويتم استرجاع التاريخ، حتى إذا ما انتصر فريق تم تسجيل ذلك ضمن خانة رد الاعتبار، أو في باب الأنفة الوطنية التي تم الدوس عليها في زمن ما. وقد تكون مدخل صلح وتصالح أيضا، إن تم استثمارها بهذا الاتجاه.
لا يقتصر الأمر على ذلك، إذ إن كرة القدم باتت مناسبة قوية لإنصاف بلد مظلوم أو التعريف بمقومات بلد نادرا ما يأتي الإعلام الدولي على ذكره، أو لا يأتي على ذكره إلا وفق زاوية نظر مضللة ومحرفة. ويبدو أن رفع علم فلسطين في مونديال قطر، يعبر بالقطع على الظلم الذي يتعرض له شعب بأكمله لأكثر من نصف قرن، جراء استصدار أرضه وتجريف هويته من لدن الاحتلال الإسرائيلي، والإمعان في تقتيل أبنائه بالتزامن مع أطوار المباريات، وفي خضم فرحة الملايين بهذا الإنجاز أو ذاك. يكاد لا يمر يوم، منذ انطلاقة التصفيات، دون أن يتعرض الفلسطينيون للقتل والإهانة والتنكيل.
لم يقتصر رفع علم فلسطين مثلا على العرب والمسلمين، ولا تم رفعه في المدرجات فحسب، بل تم رفعه داخل الميادين أيضا، وبالشوارع حيث تحتفل الجماهير بنصر هذا الفريق أو ذلك.
من المؤكد، بهذه الجزئية، أنه لم يعد ثمة من ساكنة الأرض من لم يتعرف على علم فلسطين، ويسأل عن سبب الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون، في أرضهم وثقافتهم وهويتهم ومستقبلهم، بجهة من العالم، يبدو أن إسرائيل عازمة على بسط هيمنتها وسطوتها عليها. ولم يعد ثمة من بات "من حقه" أن يجهل أو يتجاهل ما تتعرض له المقدسات العربية والإسلامية من مصادرة وتهويد واغتصاب بالقوة.
أما البلدان المتبارية، صاحبة السبق في مونديال قطر مثلا، فيبدو أن اسمها بات على كل لسان. ليس من الصدف هنا أن يصبح اسم المغرب ذائعا، منتشرا، جوالا بكل بلدان الدنيا. لا بل وجر في ذيله كل البلدان العربية وبلدان إفريقيا. لقد بات يمثلهم جميعا، لا سيما عندما بلغ ربع ثم نصف النهائيات.
أن يصل المغرب لنصف نهائيات كأس العالم، معناه أنه بات من الأربع الكبار، ليس من باب أنه نظيرهم اقتصاديا أو علميا أو صناعيا، بل لأن هذا "المربع الذهبي" لم يصله في السابق من سنين، إلا الكبار...لم يصله يوما بلد من حجم المغرب، ولا بلغته قارة لا يأتي الإعلام على ذكرها إلا مقرونا بالحروب والمجاعات والانقلابات العسكرية.
ولذلك، فليس من المبالغة في شيء القول بأن ما بلغه المغرب بفضل وصول أبنائه للمربع الذهبي، لم يدركه ولن يدركه لا بالسياسة ولا بالدبلوماسية ولا بالملتقيات الاقتصادية أو الروحية الكبرى، دع عنك التواجد بالسفارات والقنصليات والتمثيليات الأخرى. لقد كان المغرب، وفتية المونديال يتقدمون في الإقصائيات، وجهة العالم أجمع. حتى الذين لم يكونوا يعرفونه أو لا يعرفون بأية قارة يوجد، باتوا على معرفة بجغرافيته وبعض تاريخه، وثقافته ومكوناته العرقية، وتنوع هويته وتراثه، دع عنك نظامه السياسي أو الاقتصادي. بات له من حينه مكان ومكانة.
لم يعد المغرب معروفا بموقعه الجغرافي وحدوده السياسية فحسب، بل بات جزء من قيمه ومرجعيته الثقافية والدينية حاضرا أيضا وبقوة. لا يجب أن نستهين هنا بتلك المقاطع التي عاينا خلالها كيف يبر اللاعبون بأمهاتهم وآبائهم ببداية المقابلات وبنهاياتها. لقد أبانوا للعالم أجمع أن البر بالوالدين في الثقافة المغربية أمر مقدس، واستدرار "رضا الوالدين" قناعة راسخة لدى المغاربة، عربا وأمازيغ على حد سواء.
لا يقتصر الأمر عند هذا الجانب، بل يتعداه عندما يتم استحضار البعد الروحي في الاستعدادات والتداريب، كما خلال وبعد المقابلات. ليس السجود الجماعي الذي كان الفتية المغاربة يعمدون إليه عند نهاية كل مقابلة، إلا شكلا من أشكال تشبثهم بدينهم وتعلقهم بطقوسه ورمزيته.
لقد كانت ثمة نية، منذ انطلاق إقصائيات مونديال قطر، بجهة أن تفرض بعض الفرق الأجنبية "قيمها" وتروج لبعض سلوكياتها، لكنها تراجعت عندما لاحظت أنها تفعل في بيئة مختلفة تماما عن باقي بيئات كأس العالم السابقة. لقد كان للسلوك الحضاري للاعبي المنتخب الوطني، وقع كبير في جعل هذه الإقصائيات مناسبة لترويج قيم الحب والتضامن والمنافسة الشريفة والثقة واحترام الخصم ونبذ مظاهر التعصب والعنف. هذه كلها عناصر أضفاها المغرب على مونديال قطر، فأضاف إليها منسوبا من الألفة قل نظيره.
ولذلك، فنحن في مونديال قطر، لم نعايش كرة القدم باعتبارها تباريا من أجل الكأس. لا. عايشناها مقرونة بصدق المواقف وبمكارم الأخلاق.
نافذة "رأي في الشأن الجاري"
12 دجنبر 2022