تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"مأساة مصفاة لا سامير"

في العام 2015، توقفت مصفاة "لا سامير" عن الإنتاج، متنكرة بذلك لإرث النشأة في ستينات القرن الماضي، حيث كان الرهان ثابتا ولا رجعة فيه، على ضمان الاستقلال الطاقي والاقتصادي لمغرب ما بعد الاستقلال.

في العام 2016، دخلت لا سامير ردهات المحاكم للتصفية القضائية، بعدما اختل توازنها في أعقاب خوصصة (1996) لم تنجح لا في توسيع نشاط المصفاة ولا في تطوير أدائها. حتى عملية تفويت كل أسهم المصفاة في العام 1997، لمستثمر سعودي "غير مؤتمن"، لم تخرج الشركة من ظلمات الديون وسوء التسيير، بل مهدت الطريق للرجل كي يتلاعب بأصولها وممتلكاتها، ويزج بها في أتون الإفلاس القانوني ثم يجهز عليها نهائيا، ويرحل من حيث أتى.

ولذلك، فتعثر المصفاة بدأ حين تم اتخاذ قرار خوصصتها، ثم تحويل ملكيتها لفائدة طرف أجنبي لم ينظر للشركة باعتبارها ضامنا للاستقلال الذاتي في حده الأدنى لبلد لا ينتج طاقته، بل مشروعا تجاريا خالصا، العبرة فيه بما يدر من مداخيل وأرباح.

قرار الخوصصة ذاته لم يكن نزيها، فما بالك أن يكون صادق النية أو تحكمه الغيرة الوطنية، المفروض إعمالها هنا قبل الإقدام على اتخاذ القرار. لقد تبين أن التواطؤات لتصفية الشركة التأمت وتحالفت وتكاثفت لتصب مجتمعة في هذا الاتجاه. هي أطراف خارجية دون شك، لكنها متأتية أيضا من داخل الشركة نفسها: وزارة المالية وإدارة الجمارك ووزارة الطاقة وسوق البورصة وبعض الأبناك ومدققي الحسابات، ومسؤولين بالشركة باتت المصلحة لديهم تتماهى مع إسقاط الشركة لا العمل على نهوضها.

يبدو أنه كان ثمة توافقا ضمنيا ومن الباطن، لإنهاك المصفاة وإثقالها بالديون واعتماد القرارات الخاطئة عن قصد، بغرض الدفع بها إلى غياهب المجهول. والدليل على ذلك أن قرار تحرير سوق المحروقات ورفع دعم صندوق المقاصة عن المواد البترولية (في العام 2015)، إنما مثلا امتدادا طبيعيا لعملية الخوصصة، ثم لاستقدام المستثمر السعودي، ثم للزج بالمصفاة في ردهات المحاكم، ثم للإيقاف القسري للإنتاج وقد تكالبت الأسباب.

هي حلقات من مسلسل مفكر فيه ومرتب له من زمن بعيد، كما لو أن الغاية المضمرة من ذلك، إنما التخلص من معلمة تاريخية أسست للبنات الاستقلال الاقتصادي الأولى، وبات وجودها أمرا مزعجا "لأصحاب المصالح الكبرى" التي رهنت مشاريعها بالأسواق الدولية، التي توفر المحروقات "مكررة ومصفاة وجاهزة لتزويد محطات البيع" مباشرة.

لقد شيد هؤلاء منشآت مشتركة لتخزين ما يستوردونه "صافيا"، ولم يعودوا بالتالي، في حاجة لمستودعات التخزين التي كانت تؤمنها لا سامير، وتزود عبرها ومن خلالها شركات التوزيع. ومع أن قدراتهم في ضمان المخزون الاحتياطي في حده الأدنى متواضعة (بدليل إخفاقهم مرارا في احترام ال 60 يوما التي يشترطها القانون)، فإنهم لم يكترثوا ولا تم تنبيههم لذلك، بما معناه أن ثمة من يحميهم ويشطب جزاءات القانون إن تعارضت مع مخططاتهم.

ما معنى، والحالة هذه، أن يعمد إلى استثمار 2 مليار درهما لزيادة قدرات التخزين إلى 1.8 مليون طن، في حين أن مصفاة سامير لديها قدرة تخزين تتجاوز ال 2 مليون طنا، وبمقدورها إنتاج 10 مليون طنا من المواد البترولية، أي تزويد السوق الداخلية بحاجياتها كاملة، مع الاحتفاظ بالفائض؟ وهي قدرات تخزين كافية للتزود بالمواد الخام في حال انخفاض أسعارها بالأسواق، واللجوء إلى المخزون في حالة الارتفاع.

بالمقابل، فإن استيراد المواد البترولية مكررة ودون الحاجة إلى وسيط في التكرير، يضع المستهلك النهائي تحت وطأة التغيرات الطارئة للأسعار دون أن يتأثر الفاعل المستورد بذلك، لأنه يكتفي بتصريف التكاليف اللوجيستية والجبائية ضمن السعر النهائي. لا سامير كانت، في حال تشغيلها، ستخفف أسعار التكرير بما يتناسب وقدرة المواطنين، وكانت ستعفيهم من رسومات ما كانت لتكون بوجودها.

معنى هذا أن إعادة تشغيل المصفاة سيكون من شأنه أن يكون صمام أمان ضد صدمات الأسعار التي قد تترتب عن تقلباتها في الأسواق الدولية، جراء النزاعات السياسية بين الدول أو اشتغال الحروب هنا أو هناك. ومن شأنه أيضا أن يضمن حدا معقولا من الاستقلال الذاتي في مجال تزويد السوق الوطنية بالمواد البترولية.

ويبدو، من جهة أخرى، أن تحييد دور المصفاة في ظل قانون تحرير سوق المحروقات للعام 2015، لم يستتبع بحركية تنافسية تم الرهان عليها، أو هكذا كان الزعم، لخفض الأسعار بالسوق الوطنية. هذه الفرضية لم تتحقق، لا بل لربما لم تستحضر أصلا عندما تم اتخاذ قرار التحرير. إن الأسعار بالسوق الدولية معروفة ومتداولة، وهامش الحركة يقتصر على تكاليف باقي السلسلة. إعادة تشغيل لا سامير معناه أن هذه التكاليف ستتكشف وهوامش الأرباح ستنجلي، والمبالغة في الأسعار بمحطات التوزيع ستبدو واضحة للعيان، كاشفة "للمستور".

لن يكون بمقدور الموزعين، وهم بعدد أصابع اليد، كما هو سائد حاليا، التخفي خلف الادعاء بأن تباين الأسعار هو من تباين التكاليف عند الاقتناء والنقل والتخزين وما سواها. ولذلك فهم بذلك، لا يستطيعون التماهي لا مع طروحات تحديد هوامش الربح، ولا مع مطالب تسقيف الأسعار في أفق تسقيف الأرباح. كلها حلول ومقترحات لا ترضيهم بالمرة. إنها حلول تتعارض مع "حريتهم" في تحديد الأسعار، فرادى أو بتواطؤ مضمر من تحت الطاولة، ولا تتساوق مع ما هم عازمون عليه.

لو كان لبعض منها أن ترضيهم، ما تسنى لهم، ما بين العامين 2016 و 2018، تحقيق هوامش ربح تعد بعشرات الملايير من الدراهم، في عملية نهب مكتملة الأوصاف، تواطأ فيها من تواطأ، وغض الطرف من غض، وضاعت بجريرتها مصالح الناس.

يبدو الأمر هنا كما لو أن قانون تحرير سوق المحروقات إنما أتى لإغناء هذه الشركات بصورة علنية، فجة وأمام الملأ. وعلى الرغم من قرار التغريم الذي فرضه مجلس المنافسة في صيغته الأولى على بعض من هؤلاء الفاعلين، فإن تركيبة المجلس الحالي رفعت يدها عن الملف جملة وتفصيلا، بدعوى عدم صدور القوانين التنظيمية، واكتفت ب"رأي" استشاري لا يعاقب ظالما ولا يرفع ظلما.

ومع ذلك، فرئيس مجلس المنافسة لا يمكن أن يخرج "عن الصف" أو يغرد خارج السرب. لقد أوصى جهارة بألا حاجة لإعادة تشغيل لا سامير. نقطة إلى السطر.

نافذة "رأي في الشأن الجاري"

17 أكتوبر 2022

يمكنكم مشاركة هذا المقال