أصدر مجلس المنافسة من بضعة أيام مضت، "رأيا" استشاريا عن سوق المحروقات بالمغرب. هو إحالة ذاتية وليس نزولا عند طلب جهة ما، حكومة أو برلمانا أو مؤسسة دستورية أخرى.
لم يكن في وارد مجلس المنافسة، طيلة أطوار جمع المعلومات وصياغة "الرأي"، أدنى نية في إعمال اختصاصاته التنازعية، بدعوى غياب النصوص التطبيقية التي من شأنها تفعيل قانون المنافسة للعام 2015. أعمل اختصاصه الاستشاري إما ليبرئ ذمته ممن يعاتبه على صمته، أو للرد على من يدعي أن ما يجري بسوق المحروقات هو فعل قصدي ومفكر فيه.
ما الفائدة من "الرأي" إياه إذن، إذا لم تستتبعه إجراءات للزجر أو لإصلاح الوضع، إذ حتى لو سلمنا بالطابع الاستشاري لذات "الرأي"، فإن الحكومة غير ملزمة بتفعيل توصياته، على اعتبار أن القانون منح هذه السلطة حصريا لمجلس المنافسة، وذهب حد الرفع من قراراته لمقام أحكام قضائية من الدرجة الأولى.
ستتذرع الحكومة قطعا، بغياب النصوص التطبيقية، وأن عدم إخراج هذه الأخيرة لا يمنح الحكومة سلطة التقرير في "ملف" هو من صلاحيات مؤسسة دستورية أخرى.
بيد أن "أمر" عدم صدور النصوص التطبيقية لقانون المنافسة يثير تساؤلات لا يمكن للمرء ألا يقف عندها. الأول هو أننا لا ندري السبب حقيقة خلف التلكؤ في إصدار هذه القوانين، وقد مر على قانوني مجلس المنافسة وتحرير سوق المحروقات، حوالي ثماني سنوات من الزمن. إذ من المثير حقا ألا تصدر هذه النصوص، لا سيما وهي تؤطر قطاعا اقتصاديا حيويا، لا يمكن القبول بالتجاوز فيه أو تركه مباحا شبه مستباح.
ثانيا، لا ندري كيف يتذرع مجلس المنافسة بغياب النصوص التطبيقية التي من شأنها تمكينه من إعمال وظيفته التنازعية و"القضائية"، وهو الذي أصدر أحكاما وغرامات على تجمعات مهنية فئوية، وعلى شركات كبرى تمت مؤاخذتها بجريرة إقدامها على إدماج بنياتها دون إخبار المجلس إياه بذلك.
وفق أية نصوص تطبيقية "يعاقب" المجلس هذه الجهة أو تلك، ولماذا التستر خلف غيابها عندما يتعلق الأمر بملف المحروقات؟.
المسألة الثانية في هذا "الرأي" هو تركيزه في تتبع سلوك الفاعلين، على الفترة ما بين 2018 والأربعة أشهر الأولى من العام 2022. المجلس استبعد في هذا "الرأي" العامين 2016 و 2017، مع العلم أن هاتين السنتين هما اللتان عرفتا ارتفاعا مهولا في هوامش ربح الفاعلين بسوق المحروقات، يقدر ما بين 39 و 45 مليار درهما.
هذا الاستثناء يعطي "للرأي" طابعا اختزاليا وانتقائيا، ويدفع للاستنتاج بأنه خضع لتقديرات غير صائبة، ولربما لتوجيهات محددة من جهة ما. والدليل على ذلك أن مجلس المنافسة في عهدة الرئيس السابق، كان قد أصدر قرارات زجرية تتعلق بتجاوزات الفاعلين خلال هاتين السنتين، بما يعني أن التجاوزات إياها ثابتة وموثقة. والدليل الإضافي الثاني أن أعضاء مجلس المنافسة الإثنا عشر لم يتغيروا، كيف لهم أن يزكوا قرارا في زمن رئيس، ويتنكروا له في الآن معا، في زمن رئيس آخر؟ يبدو القرار هنا، من الزاوية المنطقية على الأقل، ولكأنه قرار الرئيس بتزكية قسرية أو طوعية من الأعضاء. عندما نعرف خلفيات الرئيس الجديد وطبيعة علاقاته بباقي أجهزة الدولة، فإن الصورة تكتمل، وشكوكنا تأخذ جانبا كبيرا من المصداقية، حتى وإن تم بناؤها على مجرد الاستنتاج الذي لا سبيل للتأكد منه بمعلومات على الأرض.
ثمة مسألة أخرى تتعلق بإشارة "الرأي" لمسألة التركيز بالسوق، وكيف أنها دفعت بجهة إبطال المنافسة. وهذا رأي بديهي لا يحتاج لاعتراف رسمي، إذ لا أحد بمقدوره أن يغفل حقيقة أن سوق المحروقات متمحور حول ست أو سبع شركات متباينة الحجم، هي التي تحتكره، وتحول احتكارها من بين ظهرانيه، إلى وضعيات هيمنة شبه مطلقة.
وهو ليس بالرأي الجديد أيضا، إذ لا أحد يجهل أن وضعيات الهيمنة هاته من شأنها، بتحصيل حاصل، إفساد المنافسة لا بل وإبطال مفعولها على السوق وعلى المستهلكين.
قلنا في مقالات سابقة بأن الاحتكار يفضي حتما إلى وضعيات احتكارية، وإن هذه الأخيرة لا يمكن إلا أن تكون مفسدة كبرى بالنسبة للسوق وللمنافسة وعلى مستوى الوقع على المستهلكين. وقلنا أيضا بأن تحرير سوق المحروقات بالمغرب لم يستتبع بضمانات قوية، وضمنها أن يكون مجلس المنافسة مؤسسة كاملة الاستقلالية، برئيس مستقل وأعضاء مستقلين، حتى يكون بمستطاعهم إصدار قراراتهم دون إكراه من هذه الجهة أو ضغط من تلك.
ويبدو من "التبرئة" المضمرة لسلوك شركة "إفريقيا" في هذا "الرأي"، أن هذه الضمانات غير متوفرة بالكامل، أو أنها غير كافية لمواجهة الاحتكارات الكبرى، التي قد تكون لها امتدادات بهذا الجهاز أو ذاك، وضمنه الجهاز الحكومي حتما.
المسألة الرابعة وتتعلق بتوصية "رأي" مجلس المنافسة باستبعاد شركة "سامير" من السيناريوهات المحتملة، لاعتبارات لم يفصل فيها، لكنه تحايل عليها من خلال المطالبة بدراسة تقنية دقيقة للجدوى من إحيائها والفائدة من إعادتها للتشغيل.
بالآن ذاته، يذهب المجلس في "رأيه"، حد مطالبة الدولة بعدم التدخل في مسألة المحروقات، اللهم إلا عبر بعض الإجراءات البسيطة، التي قد يكون من شأنها التخفيف من تبعات ارتفاع الأسعار (عبر الضرائب أو الجبايات مثلا). وحجته في ذلك هو ألا يتم الضغط على موارد الدولة، لأن ذلك قد يؤثر على البرامج الاجتماعية "الكبرى"، وضمنها برنامج الحماية الاجتماعية المزمع تعميمه في السنين المقبلة.
بيد أن الثابت، بهذه النقطة، أن معظم آراء الخبراء والمختصين تسير في اتجاه سيناريو إعادة تشغيل محطة "سامير"، ولهم في ذلك دراسات تقنية في الجدوى، لم يتم دحضها ولا الطعن في جديتها ومصداقية الدافعين بها.
بالتالي، وبالبناء على هذه الملاحظات العابرة، يبدو أن "رأي" مجلس المنافسة لم يأت بجديد يذكر. إنه تحدث فيما هو معروف ومتداول، لكنه أضمر أكثر ما أعلن. ومع ذلك، فنحن ننتظر صدور النصوص التطبيقية حتى نرى كيف أنه سيعمد إلى إعمال صفته التنازعية. حينها وحينها فقط، ستتضح الصورة أكثر... وتتبين العناصر جميعها...
نافذة "رأي في الشأن الجاري"
10 أكتوبر 2022