تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"الإنسان والعمران واللسان" لادريس مقبول

ادريس مقبول، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2020، 224 ص.

من تمهيد السطور الأولى، تتضح أطروحة هذا الكتاب القيم: "إن مدينتنا العربية... ليست بصحة جيدة"...وما تعيشه هو من "أعراض مرض التمدن"، أي ذاك المرض المتأتي من عدم الانسجام والتوافق بين الشكل والمضمون، والذي يتجلى "على مستوى الهوية الإنسانية عنفا واستبعادا وميزا حضريا، وعلى مستوى الهوية العمرانية تلوثا بصريا وتشوهات مجالية، وعلى مستوى الهوية اللسانية اغترابا وتفككا لغويا واضطرابا تواصليا".

البحث في رابطة الإنسان والعمران واللسان، هي هنا من البحث عما يسميه الكاتب بالمعنى: معنى ما  "يجري حولنا في المدينة العربية اليوم، وفك شفرة العلامات في أبعادها الثلاثة، الإنسانية واللسانية والعمرانية من أجل تشخيص مناسب لحالتنا المرضية".

أربع أسئلة كبرى هي في المجمل، مصدر "قلق" الكاتب، وهي لربما من الدوافع الكبرى لصياغة لهذا المؤلف:

°- كيف يتصل العمراني بالإنساني في بناء المدينة العربية المعاصرة؟

°- كيف يجسد اللساني هندسة العمراني وتداخلاته وتشوهاته وانحطاطه؟

°- إلى أي مدى يمكن استيعاب المدينة العربية الحديثة لتناقضات الإنسان مع المكان والزمان؟

°- هل من سبيل لإعادة ترتيب حياتنا المدنية في المدينة العربية من أجل إعادة التوازن والإقلاع للمستقبل الديمقراطي؟

تبويب الكتاب خضع بالتالي لإكراهات هذه الأسئلة/القلقة، لكنها أسئلة متقاطعة فيما بينها تقاطع الإشكالية نفسها. وبما أن المقام لا يستقيم هنا لعرضها وفق ما جاءت في النص، فإننا آثرنا حصر هذا التقديم في الأفكار الكبرى التي تؤثث أبوابه وفصوله:

°- أولا: في تشابه البنى. يفترض الكاتب، من زاوية النظر الإبستمولوجية الصرفة، أن ثمة تشابها كبيرا بين ثلاث بنى مركزية "متجاورة": بنية الإنسان، حيث تتجسد الإرادة المتعالية في التاريخ، وبنية العمران، حيث يتجسد الامتداد الجمالي في الفراغ، وبنية اللسان، حيث تتجسد الرؤية الرمزية للوجود.

هي بنى بمرجعيات متباينة، لكنها "متصلة فيما بينها اتصالا وثيقا سلبا وإيجابا. ففساد بنية الإنسان بما يعني تعطل إحدى قواه المادية أو العقلية، يستتبع فساد بنية العمران وبنية اللسان، حتى إذا تطرق العطب إلى الوجود الإنساني، فانهدمت قيم العدل والكرامة والحرية التي بها قيامه في حياته، تداعى له الوجود العمراني واللساني بالمرض والانهيار، ولم تكن حياته حينها إلا خواء، ولم تكن ثقافته إلا هراء".

إن الإنسان، يقول المؤلف، عندما يأوي إلى العمران، فإنما ليسجل في فضاءاته حضورا مرئيا  ومقروءا، وعندما يأوي إلى ذات العمران، فليسكن فيه ويضمن حاجياته المادية والجمالية من بين ظهرانيه، وعندما يأوي إلى اللغة، فليسكن فيها ويضمن حاجياته التواصلية والرمزية عبرها ومن خلالها.

يتمتع اللسان والعمران، في بنيتهما التحتية، بهندسة واحدة، "تقوم على منطق التعارضات والعلاقات المتبادلة. ومثلما هناك لغة مبتذلة أو راقية، هناك مدينة مبتذلة أو راقية". إذ مثلما عبر الإنسان في "تاريخه الحضاري باللسان عن أفكاره، عبر عن ذات الأفكار التي تخصه وتخص مجتمعه وأمته وأسئلة عصره بالفن، ومنه الفن المعماري، لكن درجة الوضوح والشفافية والكثافة والحقيقة والمجاز ومستويات الشعرية كانت دائما تختلف من تعبير لآخر. يحكم هذه التموجات التعبيرية طبيعة المادة وقدرة الإنسان على الارتقاء بـالصياغة والتشكيل، سواء في الأحجار أو في الأدب والأشعار...".

°- ثانيا: أمراض التمدن. وهي متأتية برأي الكاتب، من البروز السريع للمدن الحديثة، وتحديدا "بفعل هجرات وتدفقات بشرية، جعلت الحواضر الجديدة رغم ما تنذر به من مآس وآلام وأمراض، نقاط جذب يتكدس البشر وسطها ويفيضون حولها، تاركين قراهم وبواديهم".

أمراض التمدن هي بنظر المؤلف، أمراض الإنسان المقهور في المدينة الحديثة، "والذي تحولت حياته إلى مجال واسع للاستغلال والاستثمار من قبل الرأسمال المتوحش، الذي يبيع ويشتري في كل شيء. فأمراضه هي بالتحديد أمراض التلوث، بجميع أنواعه السمعي والبصري، وأمراض السياسة والاقتصاد، التي تباشر قضاء/ أو القضاء على مصالحه، ذلك أن دينامية السياسة الرأسمالية داخل شرايين الميدان العقاري للمدينة الحديثة، ترتبط بكون المجال الحضري أصبح بضاعة خاضعة لقانون السوق، وأصبحنا إزاء المدينة/السوق، مدينة التنافسية والعلاقات الربحية والارتباطات الزبونية والتدفق الاستهلاكي، وهي بالتالي جزء من نظام الحاجيات المتدفقة، الذي يقوم عليه الاقتصاد التسويقي".

ثم هي أمراض "تنتج عن الإيديولوجية الحضرية للنخبة التكنوقراطية التي تخطط المدينة (...) في حدود التقني الهندسي، مقطوعا عن الإنساني والتاريخي والروحي، وتأخذ منحى سوسيولوجيا يتداخل مع السياسات البلدية في تخطيط المدينة، منحى يتوخى تشخيص ما تفرزه المدينة من أزمات، منها النطاقات المظلمة التي تدعى بالأحياء الهامشية".

°- ثالثا: عن المدينة كفضاء من التدفقات. التدفق مفهوم رقمي وعددي، لكنه يتسع بنظر الكاتب، ليشمل بالمدينة تحديدا، كل الديناميات المتجهة. من هنا تبني الكاتب لنظرة جاك بيرك إلى المدينة الإسلامية باعتبارها "مكانا للتدفق الروحي والتدفق التجاري" في آن معا، حيث الدين والدنيا، السوق والمسجد، وحيث "المدينة الإسلامية هي المكان الذي يجد فيه المرء (...) ما يحقق فيه صلته بالسماء، وما يحقق به معاشه واستمراره على الأرض".

المدينة عمران، لكنه عمران بحاجة لثقافة، وعندما يتمازجا فإنهما يفرزان هوية بصرية تختزل، بنظر الكاتب، "تركيبا معقدا ومزيجا من عطاء الفكر في تفاعله مع التاريخ والأرض والمناخ والدين والمجتمع ومعاش الناس أو طريقة تدبيرهم للاقتصاد".

بيد أن هذه المدينة لم تعد كذلك. لقد باتت متشظية بين ثنائية الضيق والواسع، لكن لفائدة عنصر المعادلة الأول، أي عنصر الضيق. والسبب برأي الكاتب، أن "النموذج لم يعد كما كان، فبات الإنسان يتنقل من الواسع هذه المرة (الشوارع العريضة) ليصل في النهاية إلى الضيق، أي مسكنه الذي لم يعد كما كان عهده في الماضي، مستقلا ورحبا يضم العائلة الكبيرة، بل أصبح مع تشظي الأسرة الكبيرة يعيش في ما يشبه الأقفاص أو العلب الإسمنتية".

ثمة إذن تقدم كبير للشق المادي من المدينة، لكنه يكشف في الآن ذاته "تفاصيل الحياة الرمزية أو المعنوية. وكما يمكننا أن نقرأ فيه إدارة الموارد والسكان، وتوزيع الثروة والسلطة وفرص المعيشة، يمكننا كذلك من خلاله، أن نقرأ صراع المصالح والرغبات وتاريخ الذهنيات"، بدليل، يقول الكاتب، إن "الطبقة التي هاجرت من الريف إلى المدينة العربية الحديثة، لم يكن مسموحا لها بالدخول إلى الفضاء الجديد. لم يكن مسموحا لها  إلا باعتبارها قوة للعمل الشاق في صفوف الرجال أو النشاط الرخيص في صفوف النساء".

°- رابعا: في العوامل. يرد الكاتب بداية تشظي المدينة العربية (والإسلامية أيضا) إلى الحقبة الاستعمارية، حيث تمت هندسة المدن من جديد، على أسس المنفعة المباشرة، وتم ترتيب آليات الهجرة من البوادي بما يخدم رأس المال. استمر الأمر بعد رحيل المستعمر، لكن المنطق بقي هو هو لم يتغير، اللهم إلا تزايد ترييف المدن و"اتساع جسد المدينة العشوائي...لتجد نفسها في تماس مباشر مع المجال الريفي"، أي فيما يسميه عالم الاجتماع الأمريكي، ب"المتصل الريفي الحضري".

°- خامسا: في العزلة. في المدينة، "تعد العزلة أشد أنواع العقوبة. إنها عقوبة الإنسان للإنسان، انغماس في الفراغ الأبدي الأسود، انتحار الكينونة وسط ضجيج العالم، وقوع تحت شلال القلق والمعاناة والغربة والموت البطيء".

يرى الكاتب أن للأمر بالمدينة الحديثة خلفية ثقافية خالصة، إذ "إن الثقافة التي يحملها المهاجر القروي تتميز بهيمنة التقاليد والأعراف، وهي تختلف تماما عن الثقافة الحضرية التي تتميز بسيادة الفردانية والرأي العام والقانون الوضعي". يصبح الناس والحالة هذه  "أقرب إلى التجمع منهم إلى الجماعة أو المجتمع".

°- سادسا: الخاص. وهو امتداد للعزلة، حيث ينشأ عنف ناعم ورمزي من خلال اللسان أو العلامات اللسانية، لتصل إلى "إحداث جروح في هوية الإنسان، من خلال عمليات التبخيس والتنقيص غير المباشر لمن يعيشون خارج الخاص".

الخاص هنا محكوم، بنظر الكاتب، بهواجس عدة، لعلها أبرزها "هواجس الأمن والتميز والانغلاق وحماية الخصوصيات". فيتراجع الإحساس بقيمة الفضاء العام وما يعبر عنه من ثقافات وأذواق وميولات وتنوع، وإلا فأي فضاء عام في ظل "مجمعات مسورة"، كما لو أنه تعبير عن ثأر كامن بين فقراء وأغنياء المجتمع.

إننا هنا، يقول الكاتب، بإزاء "مجتمعات استعراضية" فقيرة معنويا ورمزيا، حيث الأسواق الممتازة والعملاقة تتقدم على حساب الأسواق الصغيرة، التي كانت تعزز العلاقات الشخصية المباشرة، "علاقات الوجه للوجه التي مرت بنا والتي تمتاز بالقوة والديمومة والتعاون". لا بل إن هذه الأسواق الكبرى والمجمعات التجارية قد أضحت هي "المركز العمراني المهيمن".

°- سابعا: المدينة كسلسلة علامات معبرة وكخطاب. إنها كذلك بنظر الكاتب، لأنها تختزل في "بنائها اللساني بـالقيمي الذي يعطي مضمونا أخلاقيا واعتباريا للمجال وللغة على حد سواء". ولذلك، فالمدينة هنا إنما هي عبارة عن مختبر اجتماعي، "يمكن أن نراقب فيه حركية الأفكار والظواهر والتيارات من كل نوع، ومن ذلك المسألة اللسانية"، أو ما يسميه الكاتب بالتحول اللساني للمدينة العربية، الذي يمكن النظر إلى علاقاته من وجهين. "الأول: باعتبارها تعبيرا واعيا عن دخول زمن الحداثة المعطوبة، وتجسيدا عند الإنسان ساكن المدينة، لثقافة الرفض والانصياع للتقاليد. الثاني: باعتبارها تعبيرا لا واعيا عن المدى الذي بلغه التأثير القسري لمرحلة ما قبل الاستقلال بثقلها الاستعماري خصوصا في شقها اللساني و الثقافي".

يقول الكاتب بهذه النقطة: إن "التحول اللساني ليس مجرد ذهاب وإياب بين نسقين تواصليين، قد تدفع إليه مقتضيات التفسير الأكاديمي أو المعرفي في محاضرة أو بناء فكري. إنه الشكل الدرامي الذي تنعكس فيه العملية النفسية الحائرة والتنظيم الاجتماعي المضطرب والتنميط الثقافي المفروض والجهاز العصبي المرتبك".

°- ثامنا: في استعادة الأمل. يطالب الكاتب هنا بضرورة إعادة التفكير في تنظيم المدينة ومناطقها، وفق معايير مدينية واضحة. إذ المسألة الحضرية لا تتلخص في التصنيع ولا في الحالة الاستهلاكية المتصاعدة بدون وعي (...). إن هذا التحول  مبسط ومسطح: إن ما حصل في أوربا لم يحصل في البلاد العربية، أو حصل على نحو لم تراع فيه لا الأبعاد الثقافية- التاريخية ولا الأبعاد السياسية- الاقتصادية ولا حتى البيئية والجمالية".

إن الأنساق العمرانية هي بنظر صاحب الكتاب، أنساق سيميائية ذات بعد ثقافي بالدرجة الأولى، أي تحيل على الإنسان وثقافته في أخص خصوصياته، وهي حين تنتقل "بدون وعي" من سياق حضاري إلى آخر، توزع استبدادها وقهرها على الذين "انساقوا في لحظة انزلاق حضاري لومضة علامة يجهلون عواقب تبنيها".

نافذة "قرأت لكم"، 02 يونيو 2022

يمكنكم مشاركة هذا المقال